مراسيل الأسرى

20 أبريل 2017آخر تحديث :
مراسيل الأسرى

رام اللهصدى الاعلام-20-4-2017-بعد عامين، جاءه صوت أبيه، ليبعث فيه الطمأنينة، وينثر الفرح، حمله له أثير إحدى الإذاعات المحلية: “مرحبا يابا، كيف حالك يا ثائر، شو أخبارك كيف هالشباب يابا، أهم إشي تكون مليح، إحنا بخير الحمدلله، يابا إمك مليحة وبنتك ومرتك بخير، أهم اشي تكونوا مع بعض مناح الله يرضى عليك”.

قبلها كان أحد الأسرى قد أبلغ ثائر أنجاص، الذي نال حريته مؤخرا، بضرورة متابعة هذه الاذاعة التي تبث من الخليل، مع تحديد موعد البث، حسبما أبلغته أمه خلال اتصال لها على أحد البرامج الإذاعية المخصصة للأسرى.

وقتها، كان سجن بئر السبع يحوي 7 أجهزة راديو صغيرة، وضع مؤشر أحداها على الإذاعة المقصودة، فانصت ثائر وزملاؤه، وفجأة، قفز من “برشه” على صوت أبيه.

أصغى ثائر بتمعن لحديث الأب، لتدفعه البهجة بعدها إلى دعوة أصدقائه في المعتقل إلى حفلة صغيرة على “قد الحال”، وزع عليهم الحلوى والسكاكر، وكان كلما سأله أحدهم عن السبب أجاب: “سمعت صوت أبوي على الإذاعة”، ليرد الأسرى: “مبروك ألف مبروك”.

وحده ثائر المنحدر من قرية خربثا بني حارث غرب رام الله، ومثله كل الأسرى، من يعيشون وقع البرامج التي تخصصها بعض المحطات المحلية للأسرى، فثائر الذي اعتقل منذ العام 2005 وقضى في المعتقل 12 عاما، يرى أنها نقطة التواصل الأهم بين الأسرى وعائلاتهم، خاصة تلك المحرومة من الزيارة.

حزن رفاقه وفرحهم، دموعهم وطرافتهم، ومواقف أخرى كثيرة كان يبديها الأسرى، لدى استماعهم لرسائل وأصوات عائلاتهم دونتها ذاكرة ثائر، أقساها بالنسبة له إصابة أحدهم بحالة إغماء لدى سماعه صوت أمه.

قال ثائر إن الأسير مكث في التحقيق 6 أشهر، وبعد خروجه لأقسام المعتقل، طلب منهم مراقبة الإذاعات لإبلاغه في حال اتصل أحد من عائلته، وبعد 4 أشهر من المتابعة اتصلت والدته حيث كان كل ما لديه من معلومات عنها أنها مريضة جدا، وكان يخيل إليه أنها فارقت الحياة، وحين سمعها لم يحتمل قلبه فرحة سماع صوتها فوقع مغشيا عليه.

هناك من تخونه دموعه عقب سماع صوت عائلته، خاصة إذا كان لديه أطفال، قال ثائر إنهم كانوا يهربون إلى وسائدهم يوارون دموعهم عن الأنظار. يبكون ثم يعودون بعدها الى طبيعتهم.

حمل الأثير للأسرى أخبار مفرحة، وأخرى مفجعة، وفي إحداها يذكر ثائر، اتصال والدة الأسير طارق العزة، من الخليل، التي ما ان نطقت كلمات قليلة حتى بدأت حشرجة صوتها ونحيبها، لتتبع رسالتها بالقول: “يما أبوك توفى، هاي حال الدنيا، شد حيلك يما”، حينها فقد طارق القدرة على النطق لأكثر من أسبوع، فوالده لم يزره لعامين قبل علمه بوفاته.

ويجد أهالي الأسرى في هذه البرامج، مساحة لاطلاع أبنائهم على ما يجري من أحداث، ونقل أخبار الأهل والجيران والأصدقاء، والحفاظ على اتصالهم بالمحيط الخارجي قدر المستطاع، وكما يشير ثائر إنه مع بدء موعد البث، تتحول أقسام المعتقلات إلى أشبه بنظام منع التجول . وحده صوت الراديو يدوي في الأرجاء.

كان ثائر، ورفاق الأسر، يبذلون جهدا مضنيا لإبقاء القنوات الإذاعية خالية من التشويش، والتي غالبا ما كان ينقطع بثها خلال فصل الشتاء بسبب الرياح والعواصف، لأن أجهزة الراديو التي يقتنيها الأسرى بدائية، فهي كما يصفها صغيرة بحجم اليد، تحوي لاقط هوائي “أنتين”، يمد الأسرى من خلاله أسلاك ويتم ربطها بقطعة حديدية، أو لفها على قضبان النوافذ، واحيانا يتم رمي الأسلاك خارج الغرف وتحريكها حتى يتمكنون من تعديل المحطات.

يقول ثائر: “أحيانا كان يستغرق ذلك ساعتين أو ثلاث”.

ووصل بهم الأمر لربط قطعة من الدجاج بالأسلاك الموصولة من ناحيتها الأخرى بأجهزة الراديو، وتقديمها للقطط التي كانت تسير بمحاذاة غرفهم، والتي بدورها تقوم بسحب قطعة الدجاج ومعها الأسلاك لمسافة بعيدة، ما يسهم في التقليل من التشويش الحاصل على المحطات.

في أحايين كثيرة، كانت إدارة السجون تتعمد التفتيش على الأسلاك التي يقوم الأسرى بربطها بالنوافذ الحديدية، وقال ثائر إنهم “كانوا يقطعون كل الأسلاك التي يلفها الأسرى على نوافذ الغرف، وأحيانا أخرى كانوا يغرمون من يجدون بحوزتهم أسلاك أو جهاز راديو مبالغ مالية”.

منذ ما يزيد على 10 أعوام، فردت شبكة أجيال الإذاعية، وتبث من رام الله، مساحة لأهالي الأسرى وأصدقائهم ومحبيهم، للتحدث مع الأسرى من خلال برنامج “مراسيل الأسرى”، الذي تقدمه الإعلامية جنين أبو رقطي، ومثلها محطات اخرى، ومع نهاية كل حلقة، تخرج جنين مشحونة بكم من المشاعر المتناقضة، بين حزن وفرح وألم وأمل، تفقد فيها أحيانا سيطرتها على مشاعرها، خاصة أمام بكاء الأمهات أو حديث الأطفال إلى أبائهم.

ترى جنين أن رسائل الناس واتصالاتهم بمجملها تحمل كل معاني الألم والوجع، حتى تلك المفرحة، رغم ذلك، تجد منهم من يحاول أن يبعث الأمل في نفوس الأسرى، ويشد من عزيمتهم، ويضفون جوا من البهجة.

وفي ذلك تتحدث عن إحدى المشاركات التي كانت لمجموعة من الأصدقاء، ذهبوا في رحلة استجمام إلى إحدى المناطق الطبيعية، وصمموا على أن يشاركهم رفيقهم الرحلة من اسره، فقررت إعطائهم المساحة الكافية، وراحوا يصفون له ما تشاهده أعينهم من المناظر الطبيعية، وما بحوزتهم من مأكولات ومشروبات، وغنوا له على الهاتف الكثير من الأغاني التي يحبها، حتى بات الأسير يشعر أنه يرافقهم فعلا كما أخبر عائلته خلال الزيارة.

وتذكر قصة إحدى الفتيات التي تحدثت عبر البرنامج إلى خطيبها، بينما كانت تتحضر لحفلة الخطوبة، وتقول:” اتصلت الفتاة من الصالون، وقالت لخطيبها أنها مرتدية الآن فستان الخطوبة، وعبرت عن حبها الكبير واشتياقها له، بينما والدتها تزغرد”.

يأتي اتصال الأهل مرة كل حين، هو حال البث الإذاعي، أم تنادي ابنها الأسير أو ابنتها الأسيرة، على أمل أن تسمع ردا منه أو منها، لكن هيهات.

المصدر/ وفا

الاخبار العاجلة