“الجماعة”… تجسيد العنصرية الدينية لدى الإخوان المسلمين

5 مايو 2018آخر تحديث :
“الجماعة”… تجسيد العنصرية الدينية لدى الإخوان المسلمين

د.محمد فايز فرحات 

2-5-2018

هناك تفسيرات عدة لسقوط جماعة الإخوان المسلمين بعد عقود من التغلغل داخل المجتمع المصري منذ تأسيسها في عام 1928 استنادا إلى خطاب ديني، ثم صعودها السريع عقب انهيار نظام مبارك في فبراير 2011. لكننا نطرح هنا مدخلا مختلفا لهذا السقوط، استنادا إلى الفلسفة الأساسية التي استندت إليها فكرة “الجماعة”، والتي عكست في جوهرها نوعا من “العنصرية الدينية” في مواجهة المجتمع، وتقسيم الأخير بناء على خطوط تنظيمية دينية، عكست إيمان الجماعة بنوع من “النقاء الديني” في مواجهة مجتمع “غير مكتمل الإيمان” كما ضمرته الجماعة طوال العقود الماضية.

لقد انطلق الإخوان المسلمين وحلفاؤهم داخل التيار الديني من توصيف ديني للسياسة وللصراعات والمنافسات السياسية في مصر. كان هذا واضحا في تفسيرهم للمآل الأخير الذي انتهى إليه نظام مبارك، والصراع السياسي الذي شهدته المرحلة الانتقالية بعد يناير 2011، وما انتهت إليه من صعود للتيار الإسلامي وسيطرته على مجلسي الشعب والشورى في أول انتخابات تشريعية والتي أجريت خلال الفترة (ديسمبر 2011- فبراير 2012)، ثم نجاح مرشح الجماعة، محمد مرسي، في الوصول إلى منصب الرئاسة في أول انتخابات رئاسية والتي أجريت خلال شهري (مايو- يونيو 2012). فقد ذهب الإخوان وحلفاؤهم إلى اعتبار هذه “الانتصارات” هي النتيجة “الموعودة” للصراع “الطبيعي” بين الإسلام وغيره من الأيديولوجيات السياسية الأخرى (العلمانية، والليبرالية، والشيوعية)، وأن هذه “النجاحات” المتتالية ما هي إلا مقدمة لتطبيق الآية القرآنية: “واللذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة”. ومن ثم، فإن ما حدث في الانتخابات التشريعية، ثم في الانتخابات الرئاسية، ومن قبلهما سقوط نظام مبارك، ما هو إلا ذلك “التمكين” الموعود من الله للمؤمنين في الأرض، ونصر الله الموعود “للطائفة المؤمنة” على غيرهم من الطوائف غير المؤمنة (وهم في هذه الحالة الليبراليون والعلمانيون والشيوعيون…إلخ).

وكان أكثر الوثائق تعبيرا عن إيمان جماعة الإخوان المسلمين بفكرة التمكين تلك التي تم العثور عليها بمنزل خيرت الشاطر في بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين، والتي تضمنت عددا من السياسات لتنفيذ استراتيجية تمكين الجماعة، تضمنت العمل على التغلغل “داخل المؤسسة ذات التأثير، والتي تتميز بفاعلية المواجهة والقدرة على التغيير، والمؤسسة الإعلامية، باعتبارها “تتميز بشمولية واتساع مساحة التأثير والمدى الزمني الطويل في التأثير والمواجهة، والقدرة على إحداث التغيير والفاعلية في المواجهة”، والمؤسسة الدينية، باعتبارها “تتميز بنفس مميزات المؤسسة الإعلامية ولها طابعها الخاص في ذلك”، والمؤسسة القضائية، باعتبارها “تتميز بفاعلية القدرة على التغيير والمواجهة”، والمؤسسة التشريعية، باعتبارها “تتميز بفاعلية القدرة على التغيير ومواجهة الحركة”. كما أولت الوثيقة اهتماما بأهمية التغلغل داخل قطاعات الطلاب والعمال والمهنيين ورجال الأعمال. وقد بررت الوثيقة التركيز على هذه المؤسسات بأن من شأن انتشار الجماعة وتغلغلها داخلها أن يجعل – كما تقول الوثيقة– “قرار المواجهة مع الجماعة أكثر صعوبة ويفرض على الدولة حسابات أكثر تعقيدا، كما أنه يزيد من فرص الجماعة وقدرتها على تغيير الموقف وتحقيق التمكين”.

ولم يكن هذا التكييف أو الإدراك المغلوط من جانب جماعة الإخوان، والتيارات الدينية بشكل عام، لطبيعة الصراع السياسي بينها وبين الأنظمة السياسية والمجتمع المصري بدون التصورات والمفاهيم المغلوطة لديها حول نظريات ومفاهيم الليبرالية والديمقراطية والعلمانية، والعلاقات الخطأ التي نسجتها الجماعة وهذه التيارات بين الإسلام وهذه المفاهيم.

لكن العامل الأهم وراء تعمق هذا الإدراك تمثل في ارتكاز الجماعة -وحلفائها من التيارات الدينية- إلى مفاهيم شكلت بطبيعتها خطوطا لتقسيم المجتمع على أسس دينية داخل اتباع الدين الواحد بل والمذهب الواحد، قامت على خلق جماعة “المسلمين”، أو “المؤمنين”، أو “السلف”، أو “الطائفة المؤمنة”، في مواجهة “الكفار”، أو “ذوي العقيدة الفاسدة”، أو حالة “الجاهلية الأولى”. يستوي في ذلك الإخوان المسلمين مع غيرهم من الجماعات التكفيرية أو الدعوية أو جماعات السلفية الجهادية، بدرجات مختلفة قربا أو بعدا من درجة تكفيرهم الضمني أو الصريح للفرد والمجتمع والدولة. وعلى سبيل المثال، ارتكزت التيارات السلفية إلى مفهوم أتباع السلف الصالح في مواجهة أصحاب العقائد الفاسدة من التيارات الأخرى بما فيها التيارات الدينية الأخرى مثل المتصوفة. واستندت جماعات التكفير والهجرة وجماعات التبليغ والدعوة، والحركات الجهادية العنيفة إلى مفهوم “الجماعة المسلمة” أو “العصبة المؤمنة” في مواجهة الدولة الكافرة والمجتمع المرتد عن الإسلام إلى حالة الكفر والجاهلية الأولى، حتى وإن كانت الأولى (التكفير والهجرة) قد رأت هجرة هذا المجتمع واعتزاله، بينما رأت الثانية (التبليغ والدعوة) دعوته إلى الإسلام من جديد بالحكمة والموعظة الحسنة، بينما رأت الثالثة (السلفية الجهادية العنيفة) ممارسة الجهاد ضد الدولة أو المجتمع أو كلاهما.

ورغم أن جماعة الإخوان المسلمين كانت تصنف نفسها أو صُنفت –زيفا- ضمن الحركات الإسلامية ذات الطابع السياسي- الاجتماعي، إلا أنها من ناحية، ظلت ترتكز إلى محورية مفهوم “الجماعة” في مواجهة الدولة والمجتمع. وقد أثبتت خبرتها في الحكم خلال الفترة (يونيو 2012- يوليو 2013) محورية هذا المفهوم، باعتباره مفهوما مركزيا، لم تستطع التنازل عنه لصالح فكرة “الحزب السياسي”، باعتباره الآلية أو الفاعل الرئيس لإدارة التنافس بين الرؤى السياسية والاقتصادية والاجتماعية أو بين القوى السياسية داخل المجتمع ومن داخل النظام السياسي، واستنادا إلى قواعد اللعبة السياسية كما يقرها الدستور، أو “الدولة” باعتبارها الإطار الذي انتظمت عبره الجماعات البشرية، وذلك رغم امتلاك الجماعة لحزب سياسي بعد يناير 2011، ورغم انتقالها من المعارضة إلى الحكم، وهو ما كان يعني انتفاء مبررات تمسكها بفكرة تقسيم المجتمع على أساس “الجماعة” في مواجهة المجتمع والدولة.

وقد سيطرت فكرة أولوية “التنظيم” و”الجماعة” على ما عداها من أطر أخرى إلى حد “أنه أصبح من المتصور أنه يمكن تحويل المجتمع إلى مساحة تنظيمية، وبالتالي يسهل قيادتها وتوجيهها”، “وتحول التنظيم من وسيلة لحفظ الذات من الذوبان، وأداة لتغيير المجتمع، إلى مجتمع مصغر يحاول جاهدا ابتلاع المجتمع الكبير الذي نشأ فيه”، وذلك على حد وصف أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين أنفسهم.

وكان من أبرز مظاهر مركزية مفهوم الجماعة، والحفاظ على ما يمكن تسميته “بالنقاء الإخواني” ما عبر عنه القيادي الإخواني صبحي صالح في أحد مؤتمرات الجماعة بمحافظة الإسكندرية، والذي انتقد فيه ظاهرة زواج شباب الجماعة من خارج فتيات الأخوات المسلمات، مشددا على ضرورة الالتزام بالزواج من داخل الجماعة، والذي وصل في تبريره لذلك إلى حد اعتبار الفتاة الأخت العضو بالجماعة أفضل من الفتاة المسلمة من خارج الجماعة! وقد برر صالح هذه الدعوى باعتبارها أحد الشروط الضرورية والمهمة لضمان إنتماء الأجيال التالية إلى جماعة الإخوان المسلمين. أكثر من ذلك، فقد دفعت مركزية فكرة “الجماعة” لدى صالح أيضا أنه استبدل “الإخوان” بالإسلام في دعائه عندما قال عقب حادث الاعتداء عليه من مجهولين في ديسمبر سنة ٢٠١٣ “اللهم توفني على الإخوان”. والواقع أن كل ذلك لا يعبر فقط عن مركزية فكرة “الجماعة” لدى أعضائها، سواء بالمعنى الثقافي والاجتماعي، أو حتى بالمعنى الديني، ولكنه يعبر في الحقيقة عن نوع من “العنصرية” المستندة إلى الإيمان بالنقاء الديني “للجماعة” في مواجهة مجتمع “غير مكتمل الإيمان”.

وقد كان لهذه الطبيعة التنظيمية دور مهم في اتجاه الإخوان المسلمين وحلفائها من التيارات الدينية إلى تديين الصراع السياسي في مرحلة مابعد نظام مبارك. فما إن انهار النظام حتى برزت القوى الدينية وتنافست على تديين العملية السياسية بعد الثورة، وعلى تقديم تفسيرات دينية لنتائج الصراع والتنافس السياسي خلال تلك المرحلة. كان ذلك واضحا في إسباغ صبغة دينية على كل الاستحقاقات السياسية والدستورية التي شهدتها مصر خلال الفترة (فبراير 2011- يونيو 2013)، بدءا من الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مارس 2011، وانتهاء بالانتخابات البرلمانية والرئاسية التي انتهت بسيطرتهم الكاملة على السلطتين التشريعية والرئاسية. وكانت عملية التديين أكثر وضوحا خلال الانتخابات الرئاسية (2012)، خاصة خلال الجولة الثانية التي انحصرت فيها المنافسة بين محمد مرسي والفريق أحمد شفيق. وكان الأخطر من ذلك هو سحب الإخوان وحلفائهم لمفاهيم مثل “البيعة”، و”الولاية الشرعية” على انتخاب مرسي ونظامه، ومن ثم تكييف أي معارضة للنظام باعتبارها شكلا من أشكال “الخروج” غير الجائز على الولي الشرعي. من ذلك على سبيل المثال، ما ذهب إليه الشيخ عبد الرحمن البر، الذي يوصف بمفتي جماعة الإخوان المسلمين، من أن انتخاب مرسي كان شكلا من أشكال “البيعة”، وأن ولايته “ولاية شرعية”، وما ذهب إليه الشيخ محمد حسان- الذي عمل عن قرب من الإخوان المسلمين في هذه المرحلة- أنه لا يجوز الخروج على مرسي استنادا إلى ما ذهب إليه أن له –أي مرسي- “شرعية قرآنية” و”شرعية نبوية” بجانب شرعيته “الشعبية”، وما ذهب إليه الشيخ عادل الشوربجي من تحريم الخروج على مرسي باعتباره “وليا شرعيا”، والشيخ يوسف القرضاوي الذي أفتى بعدم جواز الخروج على الإمام في الإسلام، وباعتبار مرسي “إماما” شرعيا، بل وجواز قتل الخارجين الذين يهدفون إلى تفريق أمر الأمة، وباعتباره -في مناسبة أخرى- “ولي الأمر المسلم الذي يجب أن يطاع بأمر الله”.

وكان لهذا التكييف الديني للعملية السياسية بعد يناير 2011، وتحميل التنافس السياسي ما لا يحتمله، تأثيره السلبي على طريقة تعامل الإخوان وحلفائهم مع المجتمع والقوى غير الدينية. فمن ناحية، أدى هذا التكييف إلى عدم قبول الإخوان وحلفائهم بفكرة تقديم أية تنازلات بشأن القضايا موضوع الخلاف أو الصراع. فقد بدا القبول بمبدأ الحلول الوسط و”المساومات” compromisesأو تقديم التنازلات، أقرب إلى تقديم التنازلات “الدينية” غير المقبولة/ أو التي لا يجب قبولها من جانب التيار الديني، خاصة في ضوء النجاحات المتتالية التي حققها الأخير في الاستحقاقات السياسية والانتخابية. فإذا كانت هذه “النجاحات” هي تطبيق لمرحلة “التمكين” الموعودة، فلماذا يجب تقديم مثل هذه التنازلات؟! وهكذا، وفي هذا الإطار، يمكن أن نفهم كيف تراجع الإخوان وحلفاؤهم عن مبدأ “المشاركة لا المغالبة” الذي طرحوه قبل الانتخابات البرلمانية (2011- 2012) لينافسوا على جميع مقاعد مجلسي الشعب والشورى، ثم الهيمنة على تشكيل الجمعية التأسيسية المكلفة بكتابة الدستور الدائم بعد الثورة، ثم التراجع عن الوعد بعدم طرح مرشح في الانتخابات الرئاسية، ثم الإصرار على طرح مسودة الدستور في ظل حالة الاستقطاب السياسي بين الإسلاميين والليبراليين، وانتهاء بالإصرار على رفض أية حلول للخروج من الأزمة السياسية التي وصلت إليها البلاد بنهاية السنة الأولى من حكم الإخوان المسلمين.

هكذا، ظل هناك مفهومان أساسيان حكما إدراك الإخوان المسلمين –وحلفائهم من التيار الديني- للدولة والمجتمع بكل قواه السياسية وتياراته الفكرية. الأول، هو تديين السياسة، والثاني هو تقسم المجتمع على أساس أيديولوجي- تنظيمي: الجماعة، ذات النقاء الديني، في مواجهة مجتمع غير “إخواني”. لقد نجحت الجماعة- بدعم كثيرين من خارجها- في إخفاء هذه الطبيعة العنصرية طوال العقود الممتدة من عام 1928 حتى عام 2013، لكن خبرة توليهم السلطة كانت كاشفة عن عمق هذه العنصرية الدينية والتنظيمية.

المصدر مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
الاخبار العاجلة