من يعزي غزة؟

17 مايو 2018آخر تحديث :
من يعزي غزة؟

رام الله- صدى الإعلام

بقلم: سما حسن- الأيام                                            

اعتقدت أن وفاة والدي قبل عدة أشهر هي كارثة الكوارث، واعتقدت أن الحياة ستتوقف وأن حزني أكبر من أي حزن، وأن مصابي لا يوصف ولا يشبهه أي مصاب، وبكيت حتى كاد قلبي يتوقف وعشت مع الحزن والذكريات ليالي طوالاً حتى كدت أفقد عقلي، إلى أن بدأ الحزن ينكمش ويقبع في بقعة من قلبي، ويتفتح مع ذكرى وموقف، ومع كل لحظة أختلي بها بنفسي أنكأ بنفسي الجرح، واعود للبكاء الذي أعتبره نوعاً من الوفاء بل أقل الوفاء.

تذكرت مثلاً لجداتنا الماضيات بلا عودة وهو أن من رأى مصاب غيره، تهون عليه مصيبته، وهكذا كنت أعزي نفسي وأنا أرى مصاب أمهات الشهداء الذين قضوا في الأيام القليلة الماضية في غزة، وبعد موجة جديدة من الصراع مع الاحتلال، وبقوة غير متعادلة، وقوة مفرطة في الوحشية.

رأيت بأم عيني الأمهات المكلومات، رأيت الدموع وسمعت الشهقات، وكان الألم بأبشع صوره على وجوههن، ولم أجد كلاما يقال سوى أنني همست لنفسي أن العزاء لا معنى له، وأن تقديم كلمات المواساة لأم تفقد ابنها يشبه أن تقدم ملعقة لغريق في بحر واسع يوشك على الاختفاء تحت الأمواج العاتية.

الصمت في حضرة الأمهات الباكيات الجزعات الملهوفات، الصمت في حضرة الدموع الساخنة الصادقة، والصمت في حضرة القلوب التي لن تتوقف عن البكاء حين يخونها دمع العين حياء أو مهادنة.

قررت أن أصمت أمام حزنهن، وجمعت ما لدي من شجاعة وصمتُّ، كنت أتوقع أن ابكي أمام دموع أم الشهيد، ولكني وجدت أن الصمت هو سلاحي، لو بكيت كنت سأتحدث عما أشعر به، فهي أم وأنا كذلك، سأتحدث عن الفراغ، والمائدة التي نقصت واحدا ملتفا حولها، والضحكة التي غابت في شقوق البيت القديم، والمداعبات التي ذهبت بلا عودة مع ابن مشاكس خرج من البيت وهو يعتقد أنه سيعود، ولكن قلب أمه كان يعرف الحقيقة أنه الخروج الأخير.

 كنت سأخبرها أنني اعرف القبضة الباردة حين تعتصر الجوانب، وحين تقبض على الضلوع، وحين تودين الصراخ كل لحظة، ثم تتراجعين فيصدر منك صوت مثل المواء، ثم يخفت ويتحول إلى أنين، ثم يختفي وتفلت منك تنهيدة حارقة، ثم تستلمين إلى النوم بحثا عن حلم أو رؤية.

خرجت من المكان الضيق حيث تجتمع النسوة حول الأم الثكلى زائغة العينين، التي تحاول التماسك أمام الوافدين، والتي تتعجل الليل والفراغ والوحدة، ووقفت أمسح دمعا فر بسرعة في المسافة بين باب البيت وخيمة العزاء التي أقيمت في الساحة الفارغة أمامه، فلمحت والد الشهيد، لا يعقل كل هذا الحزن فوق كتفي هذا الرجل الضئيل الحجم، لا يمكن أن تكون هذه النظرات ترى ما أمامها، وهاتين اليدين المرتجفتين تتعرفان على من يصافحهما ويهزهما بقوة، لا يمكن لهذا المشهد البشري أن يكون لرجل لا زال حياً.

 أعرف شعور هذا الرجل، نظراته لم أخطئها، انني أحفظها، فحين تتقبل العزاء في عزيز، سوف تنسى بعد أيام من جاء لتعزيتك، لن تتذكر سوى رائحة القهوة، والخيمة القاتمة والعرق الذي تفصد من كل خلية من خلايا جسدك، وحاجتك القاتلة لكي تستلقي على سريره وتشم رائحته، وتعب من عطره العالق بملابسه، ثم تقف ثانية على قدميك.

أشعر بكل شيء لأن الفقد الأكبر هو فقد الأعزاء على القلب، فقد فلذة الكبد وفقد سبب وجودنا في الحياة، أعرف وأعرف وأعرف كل شعور يمكن أن يراود كل ثاكل وكل ثاكلة في غزة، أعرف شعور الأم والأب والزوجة والأخت والحبيبة.

الحبيبة الغامضة المجهولة، لست أعتقد أن أحدا قد كتب عنها، لا لقد تذكرت، هناك كاتب رائع من جنوب غزة كتب عنها، وكنت سأخبره أنه قد أصاب حين تذكر تلك المجهولة، في يوم ما بكيت أحد الشهداء الذي كان ينوي التقدم لخطبتي، ويومها كنت فتاة مراهقة يملؤها الغرور، والأحلام أمامي عريضة لا تقف عند بيت زوجية وانجاب الصغار، ولكني رغم ذلك بكيته في صمت حين ارتقى شهيداً في اشتباك مع الجنود ابان انتفاضة الحجارة، تخيلت حلمه بي للحظة وبكيت، فما بال حبيبة لديها من الذكريات الكثير، وتحتفظ بخزانتها بوردة مجففة كما يفعل كل الأحبة، ومحادثته الأخيرة لا زالت عالقة على هاتفها النقال، بعد أن اتخذت قرارا بألا تحذفها خوفا من بطش شقيقها الأكبر، هل كان قلبها يعرف انه سيرحل فاستبقت كلماته الأخيرة؟

في غزة هناك حالة كبيرة من الفشل، اسمها الفشل في تقديم العزاء.

الاخبار العاجلة