بقلم: الدكتور ناجي صادق شراب – استاذ علوم سياسية – غزة
ليس مستغربا ما يحدث في المنطقة من تحولات سياسية كبرى تتداخل فيها العوامل الداخلية والخارجية ، والهدف واضح وهو تجديد الخارطة السياسية التي وضع بذورها إتفاق سايكس بيكو، وهدفه التفكيك السياسي لدول المنطقة .
المرحلة الأولى بدأت مع التأصيل للدولة القطرية، والتي هي النواة الأولى للخارطة الجديدة .لقد كانت الإشكالية الكبرى منذ البداية هي المشروع القطري على حساب المشروع العروبي اولا. وبدلا من أن تتحول الدولة العربية القطرية إلى مشروع وحدوي عروبي قوت ودعمت الإتجاهات القطرية ، وهذا ما قد يفسر لنا فشل أي مشروع وحدوي عربي ، وفشل الجامعة العربية من أن تتحول إلى مشروع وحدوي كامل، وبقيت مرهونة بإرادة وقرار الدول القطرية التي ترسخت منذ البداية في ميثاق الجامعة العربية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، لأن مشروع الدولة القطرية ذاته قد فشل وتراجع وانهار لأسباب وعوامل كثيرة اهمها: الفشل السياسي في التأسيس لحكم ديموقراطي رشيد، والفشل الإقتصادي بغياب الرؤية التنموية المستدامة عربيا، والفشل المجتمعي بعدم تبني خطط إندماج وإنصهار لكل الأقليات ، وبدلا من ذلك تم التركيز على الحكم الإستبدادي ، والمركزي ، وإنشاء الدولة الأمنية البوليسية القمعية السهل إنهيارها وفشلها، والتبعية للخارج التي بقيت سمة واضحة للعديد من انظمة الحكم ، وبدلا من البحث عن الشرعية والقبول الداخلي برفع الأداء والإنتاج والإنجاز تم الإعتماد على القوى الخارجية.إلى جانب تمدد وإنتشار الفساد والتضخم البيروقراطي.
وكل هذه المكونات والمعطيات هي التي هيأت لثورة التحولات العربية وسقوط العديد من أنظمة الحكم ، وفي دول رئيسية، وزيادة درجة التدخل الإقليمي والدولي من قبل القوى المتطلعة دائما للنفاذ لقلب المنطقة ، وهذه البيئة السياسية الهشة ساعدت على بروز الحركات الإسلامية المتشددة، وبروز رؤوس الأقليات المذهبية والطائفية التي فشلت الدولة القطرية أصلا في دمجها وصهرها في إطار انظمة حكم ديموقراطية مدنية.
وهكذا وجدت المنطقة نفسها امام سيناريو الدولة الفاشلة والتي نرى امثلة عديدة لها في لبنان والعراق وليبيا، وسوريا، والتي تعني عدم قدرة الدولة ببساطة على أداء وظائفها ،مما يعني إنهيار الدولة المركزية ، وتعرضها للتفكيك السياسي.الان الخيار الذي يرسم للمنطقة هو إعادة رسم خريطتها السياسية بناء على هذه المذهبية والطائفية والإثنية التي هي بديل من ناحية للدولة المركزية ، وبديل للمشروع العروبي وبسيناريو التفكيك السياسي يتم التخلص من هوية المنطقة كلها، وهذا ما تسعى له إسرائيل والولايات المتحدة ودول الإقليم مثل إيران وتركيا.
ليس معنى هذا ان هذا السيناريو بات واقعا سياسيا ،ولا يمكن مقاومته.
فما زالت الدول العربية القائمة قادرة على الحفاظ على هوية المنطقة ،والتصدي لمثل هذا السيناريو. وذلك بإنتهاج السيناريوهات المضادة والمجهضة له.
وقد يكون ما ينتهج من سياسة حاسمة وقوية ازاء ما يجري في لبنان من قبل السعودية مدعومة بدور خليجي واضح مثال على ذلك، والحال ايضا بالنسبة لليبيا الدولة الجارة لمصر من ناحية وتونس والجزائروالمغرب من ناحية أخرى مثال آخر. فالخيار الحتمي امام الدول العربية هو إحباط سيناريو التفكيك السياسي من خلال دور قيادي محوري تقوده مصر والسعودية مدعوما بدول مجلس التعاون، ودول المغرب العربي والأردن ، والهدف هنا إستعادة وحدة هذه الدول وإستعادة دورها الوطني ، ويكتمل هذا السيناريو بعد ذلك بتبني أنظمة حكم ديموقراطية توافقية تقوم على مبدأ المواطنة الواحدة التي تتعامل مع كل السكان على أساس انهم مواطنون لهم نفس الحقوق والحريات، وعليهم نفس الواجبات الوطنية .
وهذا السيناريو هو ما فشلت فيه الدولة القطرية في السابق، وبالديموقراطية التوافقية يمكن إستعادة قوة الدولة الوطنية ، وبهذه السياسة تنتفي المطالب الإقليمية والدولية التي تسعى لتفكيك الدول العربية وتحويلها لدول هشة ضعيفة ،او بالأحرى دويلات طائفية بلا اسس ومقومات قابلة للحياة والبقاء، ومصيرها ربطها بالدولة الأم في إيران وتركيا، وغيرها.
وهذا الخيار هو الأساس لعملية إصلاح سياسي ، تقود لما هو أبعد من ذلك بإستعادة الهوية العربية في إطارها وسياقها النهضوي والحضاري والتنموي، وهذا هو الطريق لإستعادة هيبة المنظومة العربية لفاعليتها وحيويتها كقوة سياسية وإقتصادية وعسكرية قادرة على مواجهة كل الخطط والسيناريوهات التي ترسم للمنطقة. والبديل لذلك مزيد من التفكك، والإنقسام والإنصهار في بوتقات إقليمية ودولية أكبر.