حول خطاب الرئيس

29 سبتمبر 2018آخر تحديث :
حماس
حماس

بقلم حسين حجازي عن جريدة الايام

انتظرنا نحن الشعب الفلسطيني الذي يبلغ تعداده ثلاثة عشر مليوناً في فلسطين وحول العالم، بقدر كبير مشوب بالانفعال والترقب مساء يوم الخميس، الخطاب الذي يلقيه رئيسنا محمود عباس في اليوم الثالث من انعقاد المؤتمر الأممي كما في هذه الأيام من شهر أيلول من كل عام، أسوةً بجميع رؤساء دول العالم. وقبل ان يعتلي الرئيس منصة الخطابة بقليل أعلنت دول مجموعة السبع وسبعين زائد الصين والتي تضم ما كان يسمى منذ العام 1955 حركة عدم الانحياز، وفي خطوة لا سابق لها انتخاب الرئيس محمود عباس رئيساً لهذه الكتلة وهي الأكبر بين الدول في الأمم المتحدة. وكانت هذه اللفتة الأكثر من رمزية ومعنوية بل سياسية ودبلوماسية لا تقل أهمية عن اعتبارها تأييداً وتضامناً مع الكفاح الفلسطيني هي نصا بامتياز للحق الفلسطيني.

وعلى نسق الخطابات السابقة للرئيس في السنوات والمرات الأخيرة الماضية، فقد كان الرجل صريحاً ودقيقاً في اختيار عباراته قادراً في كل مرة على امتلاك الحجة وقوة الإقناع، خطاب مكثف ومحدد الأهداف ومختصر، لا يبدو قابلا للاختراق. واذا شئنا اختزاله في عبارة واحدة فان الرسائل التي حملها هذه المرة تبدو كما لو انه يصوب سهاماً في بؤرة الهدف، ملوحاً بالكارت الأصفر: الالتزام مقابل الالتزام وليكن ما يكون.

لم يذهب اذا الى حد قلب الطاولة او كسر قواعد اللعبة، فلا يزال ثمة وقت آخذ بالنفاد امام الصبر الاستراتيجي الفلسطيني، في انتظار ان تتمخض الازمة او الانسداد المتواصل منذ عشر سنوات في عملية السلام عن حدوث هزة او تحول في معسكر العدو او اميركا، والا فان الخطوة التالية هي قلب الطاولة والخروج على قواعد اللعبة الراهنة.

واذ بدا الرجل المرة بعد المرة وكأنه لا يفعل سوى مواصلة هذه الشكوى امام مجلس المجتمع الدولي، شكوى لا يخفي الرجل في مضمونها قدرا من الحيرة بل واليأس، إزاء هذه الصلابة المتحجرة من جانب الإسرائيليين في مقابلته عند منتصف الطريق، الى الحد الذي وصف فيه هذا الوضع المحبط بالقول: انهم حتى لا ينظرون الينا نحن الفلسطينيين كبشر، نستحق العيش بكرامة مثل الشعوب الأخرى بامتلاكها حق تقرير المصير. ولكن خلف هذا التصور الذي لا يبدو انه كاف لتغيير الوضع القائم، فان الميل الى التحدي والاستعداد لمواصلة القتال كانا واضحين تماما.

وصحيح انه لم يذهب الى حد قلب الطاولة او كسر قواعد اللعبة، وربما كان ذلك نتيجة حسابات سياسية بعد اللقاء الذي جرى بينه وبين زعيمة المعارضة الإسرائيلية تسيبي ليفني في نيويورك، التي دعته الى عدم الذهاب الى هذه النقطة وإعطاء المتغيرات المحتملة في إسرائيل وحتى أميركا بعض الوقت. او لعله قرأ بعض هذا التراجع من لدن دونالد ترامب في الأيام الأخيرة، بعد تصريحات هذا الأخير المفاجئة عن اعترافه بحل الدولتين وإعلانه عن تفضيل هذا الخيار وبعض التلميحات الإيجابية الأخرى تجاه الفلسطينيين.

لكن التهديد الذي يصل ربما الى ما يمكن اعتباره انذاراً صريحاً لا يمكن الخطأ في قراءته، وعلى رأس هذا التهديد سحب السجادة الحمراء من تحت أقدام الاحتلال، والمقصود بذلك وقف التنسيق الأمني. ولا يقلل من أهمية هذا الاستنتاج تجاهل بنيامين نتنياهو في خطابه اللاحق الذي اعقب كلمة الرئيس ابو مازن فحوى شكوى الرجل ونبرته القاطعة، وكذلك تجاهل الصحافة الإسرائيلية في اليوم التالي أي تغطية لخطاب الرجل بالمجمل. اذ كان واضحاً في الخطاب تأكيد الرئيس في مستهل كلمته على التزامه بتنفيذ توصيات المجلس الوطني في اجتماعه الأخير الذي اعاد التأكيد على شرعية القيادة الفلسطينية، وتنفيذ مجموعة هذه التوصيات يعني الذهاب الى كسر قواعد اللعبة.

وكان ملاحظاً ايضاً انه إزاء الادارة الاميركية الحالية، ورغم ما قيل او اشيع عن مساع تسبق الخطاب للمصالحة مع هذه الادارة، فان الرئيس كرر موقفه السابق من دعوة رئيس هذه الإدارة التراجع عن الإجراءات أحادية الجانب والعدائية للفلسطينيين كشرط لهذه المصالحة، وفي الوقت نفسه واصل التأكيد على موقفه السابق الرافض لأحادية الوساطة الأميركية في حل الصراع.

والواضح ان هذه الدورة من أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة شهدت ما يبدو انها سوابق وعلامات لها دلالاتها وما بعدها، في علاقة ونظرة أمم العالم لهذا الرئيس الأميركي وإدارته. لقد ضحكوا عليه بصورة هازئة وصوت عال وكأنهم بهذه الإهانة الجماعية القاسية التي لم يسبق حدوثها، يحققون قول أمير الشعراء العرب احمد شوقي: “يا امة ضحكت من جهلها الأمم”. ولكن الأمم في هذا المشهد الافتتاحي لقمة الأمم كانت تسخر بالضحك على رئيس أقوى امة في التاريخ، بعد ان بدا ان هذا الرئيس فاقد التوازن والاتزان لم يعد لائقا ان يكون ممثلا لها.

والذي حدث انهم في السنة الأولى من حكمه كانوا يخافون منه، ولكنهم في السنة الثانية وبعد ان ابان الرجل عن سلسلة حماقاته واكتشفوا امره لم يعودوا يخافون منه ومن اميركا نفسها، حيث فقدت الأمة الأعظم مع هذا الرئيس مهابتها التقليدية او التاريخية. ومن المفارقات ان الرئيس الفلسطيني والفلسطينيين الذين هم اضعف أطراف العائلة الدولية، أول من تجرؤوا على قول ” لا ” كبيرة في وجهه، ولا زال موقفهم هذا هو الذي يمنع قدرته على عرض خطته للسلام التي يسميها صفقة القرن. وخلال هذه القمة الأممية تحدثوا جهارا بعبارات قاطعة وحادة. قال الرئيس الإيراني حسن روحاني ” التهديد بالتهديد “، وقال ابو مازن ” الالتزام مقابل الالتزام “.

ولعل استراتيجيته عند هذا المنعطف الذي يشهد متغيرا حاسما يتمثل في توافق العالم ضد السياسة الأميركية والإسرائيلية على حد سواء، تحصد حولها نجاحات او انتصارات متفرقة هنا وهناك، ولكنها بمجموعها كفيلة لان تضفي في تراكمها ومحصلتها اختراقا في المدى المنظور.

واقدم الاتحاد الأوروبي الذي هو مصدر الرهان اليوم على خطوة راديكالية في إطار السجال مع إدارة ترامب حول الأزمة مع إيران، يمكن النظر اليها على انها محك الحقيقة في قدرة أوروبا على امتلاك الإرادة في تجاوز هذه الإدارة وتحديها لحماية مصالحها في الحفاظ على الاتفاق النووي مع ايران كما في العلاقات الدولية بشكل عام وإزاء الأزمات الأخرى، وهذه الخطوة كانت ضد العقوبات الأميركية التي يهدد بها ترامب لتقويض هذا الاتفاق الذي يحظى بإجماع العالم وإفشال هذه العقوبات مسبقاً على حد سواء. وهو ما يمكن البناء عليه ازاء القضية الفلسطينية بعدم السماح لاسرائيل واميركا تقويض الاجماع العالمي حول حل الدولتين.

ومن الأزمة الخطرة الروسية مع اسرائيل حول اسقاط طائرة اليوشن20 فوق سورية، الى الاعتراف الكوولمبي بالدولة الفلسطينية وتراجع الباراغواي عن نقل سفارتها الى القدس، الى الموقف الاسباني بالتلويح بالاعتراف بالدولة الفلسطينية ودعوة الاتحاد الاوروبي الى الاقدام على هذه الخطوة، الى مواقف ايرلندا والرئيس الفرنسي ماكرون القوي من القضية الفلسطينية، الى اعلان زعيم المعارضة العمالية جيرمي كوربن الاستثنائي بل التاريخي بالاعتراف البريطاني بالدولة الفلسطينية في حال فوز حزب العمال في الانتخابات البريطانية القادمة، وتوليه رئاسة الوزراء.

ان هذا الإجماع الدولي سوف يكون له الفعل والكلمة الحاسمة مع الوقت وعند اللحظة الحاسمة، هذه اللحظة التي تشكل في مثل هذه الأزمات جدارة وسلامة الاستعداد الاستراتيجي. وان هذا هو الجدار السميك الذي استطاع الفلسطينيون والرئيس ابو مازن اقامته على المستوى الاستراتيجي، والذي لا يمكن تجاوز مفاعيله كما الضغوط والقيود التي سيبدأ في طرحها مع الوقت لكسر الانسداد القائم، وإلحاق الهزيمة باليمين الإسرائيلي الإيدولوجي والمتطرف من رفض إقامة الدولة الفلسطينية، الذي تبجح زعيمه بنيامين نتنياهو قبل ايام وردا على دونالد ترامب من انه لن يسمح بإقامة هذه الدولة طالما هو من يحكم اسرائيل.

وقد نرى في هذا السياق ان ما بدا تراجعا من قبل دونالد ترامب عن تمنعه الالتزام بحل الدولتين، انما يتم تحت تأثير هذه المفاعيل والضغوط التي يفرضها الإجماع الدولي حول حل الدولتين. واذا كانوا اخيرا يذهبون لتسوية الأزمة السورية بتشكيل هذه الرباعية التي تضم ألمانيا وفرنسا وتركيا وروسيا دون الولايات المتحدة، ويغلق الروس السماء السورية بالدفاعات المتطورة من منظومة اس 300، لعدم السماح بالمشاغبات الإسرائيلية. فإن السؤال الفلسطيني الذي ما برح يطرحه الرئيس على العالم هو من قبيل التماهي مع هذه التوافقات متعددة الأطراف ازاء ايران وسورية، وبهذا المعنى “الى الأمام سر” لحل العقدة الأخيرة وأم الأزمات في هذا الشرق المتوسط.

المصدر جريدة الأيام
الاخبار العاجلة