الهبد الالكتروني … ابداع جديد للحراك الشبابي في غزة

23 مايو 2019آخر تحديث :
انور رجب
انور رجب
أنور رجب

 # الهبد الالكتروني، مصطلح قد يبدو غريباً بعض الشيء من حيث التسمية، ولكن من حيث الفعل والجوهر فإنه يعبر عن ظاهرة تحمل قدراً كبيراً من النضج والوعي الوطني، خرجت إلى النور بجهد مجموعة من الشباب الفلسطيني في قطاع غزة، لم تستسلم لواقع الحياة والظروف الصعبة والمعقدة التي تحيط بهم من كل اتجاه، من تهميش وفقر وبطالة وغياب الأفق وفقدان الأمل بمستقبل يلبي الحد الأدنى من طموحاتهم، وقررت أخذ زمام المبادرة بنفسها واستعادة دورها المسلوب، وانتزاع حقها عنوة من بين فكي “الغول” – سلطة حماس-  في عملية البناء المجتمعي والمشاركة السياسية وبطريقتهم الخاصة، فكان الإبداع الذي ولد من رحم المعاناة، وبدأت تلك الشريحة تفرض نفسها وبقوة من خلال حراك شبابي كانت بدايته متواضعة وبطيئة ومحدودة، اتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي ساحته المركزية ومنصة رئيسية يعبرون من خلالها عن آمالهم وطموحاتهم وأحلامهم بالمستقبل الذي يريدون، وفي الوقت نفسه يعبرون بغضب وجرأة عن واقعهم وظروف معيشتهم ومآسيهم، فسلَطوا الأضواء على العديد من المشاكل والأزمات والمطالب الاجتماعية والمعيشية بأسلوب النكتة السياسية والنقد الساخر، ووجهوا سهام نقدهم لأخطر المظاهر الاجتماعية والسياسية المغلفة بمفاهيم وطنية ودينية بكل وعي وجرأة ومسؤولية ان كانت لأفراد أو جماعات.
وبالعودة لمصطلح الهبد الالكتروني، يمكن القول إنه شكل من أشكال الدبلوماسية الرقمية وإن كان بصبغة شعبية، وكما هو معروف فميدان الدبلوماسية الرقمية هو ساحات الفضاء الالكتروني، حيث تستخدم مختلف وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر وانستجرام ويوتيوب والمواقع الإلكترونية) في سبيل تحقيق نجاحات وتعميم وتمرير سياسات تخص قضايا ورؤى الجهات الفاعلة في هذا الميدان، وهو ما ينطبق على حراك الهبد الالكتروني الشبابي موضوع هذه المقالة، حيث اختاروا بكل مسؤولية واقتدار ميدان معركتهم وأداروها بطريقتهم الخاصة، وضمن ما هو متاح لديهم من امكانيات وقدرات تبقيهم بعيداً عن محاولات التوظيف والابتزاز، وبما يضمن لهم المشاركة الفاعلة في الهم الوطني العام وفي الوقت نفسه العمل في بيئة آمنة لا تمنح “الغول” مبرراً ولو كان وهمياً بالانقضاض على حراكهم كما حدث سابقاً في حراك (# بدنا نعيش)، والذي على أثره تعرض غالبيتهم للاعتقال والملاحقة والتعذيب، ومحاولة شيطنتهم وتشويه حراكهم وشخوصهم، واتهامهم بالارتباط بأجندات خارجية وبتنفيذ مؤامرة تستهدف حماس و”المقاومة”، و حتى الآن لم تكشف أجهزة أمن حماس كما وعدت عن خيوطها وأطرافها. وبالرغم من ذلك لم يستسلموا ولم ينل منهم الخوف ولا زنازين حماس ولا شيطنة إعلامها لهم، ولا حالة اليتم التي عانوا منها تلك الفترة بعد ان تُركوا وحدهم أو بقليل من الدعم الخجول الذي خضع لحسابات السياسة والمصالح الحزبية.
معركة الرواية، هي المعركة التي اختار شباب الحراك خوضها، وهي من أخطر وأهم المعارك في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي وكشف حقيقة إجرامه بحق الشعب الفلسطيني، وفضح زيف وكذب روايته التي وللأسف وجدت أبواباً متعددة للوصول للرأي العام الدولي إما بسبب غيابنا أو ضعف أدواتنا أحياناً، وإما بسبب الغباء والعنتريات والبطولات الزائفة للبعض أحياناً أخرى. إذاً هي معركة الوعي التي تعتمد على الكلمة والفكرة والموضوعية، بمعنى آخر تعتمد على قوة المنطق وليس منطق القوة “المفقودة والخاسرة”، فأساليب النضال والمقاومة والدفاع عن القضية والوطن متعددة ومتنوعة، وهم اختاروا أقلها كلفة وأفضلها فعالية، طبعاً بجانب اساليب المقاومة الشعبية السلمية الأخرى، دون استقدام الدمار والخراب وازهاق الأرواح وبتر الأطراف، ووقف عجلة الحياة.
الحملة التي أعلن عنها شباب الحراك وحملت وسم (# اهبد 194)، كانت المرحلة الأولى في معركة الرواية وقوة المنطق، وفي دلالة على مستوى النضج والوعي لدى القائمين على الحملة، فإن اختيار الرقم 194 لم يكن عشوائياً أو عبثياً، فهو يحمل دلالات مهمة في سياق ادارة المعركة، إذ يشير لقرار الامم المتحدة الخاص بعودة اللاجئين، ورقم عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة، أما جنود هذه الحملة فهم “جيش الهبد الالكتروني”، وهو مجموعة المقاتلين في شتى أماكن التواجد الفلسطيني في غزة والضفة والخارج، وينتشرون في ساحات الفضاء الالكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي، يترصدون ويلاحقون المنشورات والبيانات والتغريدات المنشورة على حسابات تخص جهات ومؤسسات وشخصيات اسرائيلية، أو حسابات تعود لمؤسسات وشخصيات عالمية من سياسيين وفنانين واعلامين، أو مؤسسات إعلامية مناصرة لإسرائيل، والتي من شأنها تضليل الرأي العام الدولي وإظهار الأمور بشكل مخالف للواقع والحقيقة، ويعمل جيش الهبد على تفنيدها وتكثيف الردود عليها لكشف زيفها وكذبها، ونزع دور الضحية عن اسرائيل التي تقدم نفسها للعالم به، والحق يقال فقد كانت النتائج غاية في الأهمية، حيث اضطرت بعض تلك المؤسسات أو الشخصيات لحذف تغريداتها، كما نجح هذا الجيش في استقطاب وتحييد المئات ممن كانوا يتبنون رواية الاحتلال ويناصرونها، والنماذج في هذا الصدد كثيرة لا يتسع المقام لذكرها هنا. 
غالبية هؤلاء الشباب كما هو واضح من صفحاتهم وحساباتهم وبعض اللقاءات الاعلامية التي أُجريت معهم، تشير إلى أنهم على درجة متقدمة من الثقافة والتحصيل الاكاديمي، ولديهم قدرات عالية في تطويع واستخدام التكنولوجيا وإجادة أكثر من لغة، كما أن انتشارهم الواسع في غالبية دول العالم وبالذات في اوروبا والولايات المتحدة ساهم في توفر مترجمين بعدة لغات وصلت الى 25 لغة تم استخدامها في “هبد” العديد من الصفحات والحسابات، والتواصل مع ساحات وشخصيات عالمية، والأهم أن أدوات المعركة التي يخوضونها متوفرة ومتاحة وغير مكلفة ولا تحتاج الى تمويل تجعل القائمين على الحراك عرضة للابتزاز أو محاولات الاحتواء والتوظيف.
خلاصة القول، وبالرغم من أهمية هذه الظاهرة وأهمية هذا الفعل بوصفه واحدا من وسائل المقاومة الشعبية السلمية، فإنه يجب الحذر من تضخيم هذه الظاهرة أو المبالغة في النتائج التي من الممكن أن تحققها، وفي الوقت نفسه يجب عدم التقليل من شأنها أو محاولة تقزيمها أو الاستخفاف بها كما هو حاصل من البعض، لا سيما إن كان ذلك بشكل متعمد وممنهج ومخطط له من قبل (الغول) جهات وجماعات وقوى لا ترى إلا بعينها ولا تقبل إلا ببرنامجها، وترى في كل فعل خارج إطارها بغض النظر عن دوافعه وأبعاده الوطنية خطراً على وجودها وتتعامل معه بوصفه مؤامرة ضدها، فتسرع الى تشويهه ومحاولة وأده والقضاء عليه. وبالمقابل فانه ومن أجل الحفاظ على هذه الظاهرة وتطويرها، وتوسيع نطاق فعلها وتأثيرها، فانه يجب العمل لا سيما من قبل الحكومة الفلسطينة على احتضان هذه الظاهرة وتوفير مقومات استمرارها ونجاحها لتتحول الى أسلوب حياة لدى الشباب الفلسطيني، وإلى ساحة فعل رئيسية فاعلة في مواجهة الرواية الصهيونية ودحضها وكشف زيفها، وفي التأثير على الرأي العام العالمي بجميع مستوياته. 

الاخبار العاجلة