كمال بلاّطة.. مبدع القدس والمنافي

7 أغسطس 2019آخر تحديث :
كمال بلاّطة.. مبدع القدس والمنافي

صدى الاعلام _ رام الله : عام 1967 توجه كمال بلاّطة لحضور افتتاح معرض للوحاته في بيروت، وخلال تواجده هناك، وقعت النكسة، واحتلت مدينته “القدس”. لم يُسمح له بالعودة إلا زائرا بجواز سفر أجنبي عام 1984، ليتنقل بين كثير من المنافي لاثنتين وخمسين سنة، قبل أن يرحل فجر السادس من آب 2019، في برلين وأمنيته أن يعود إلى فلسطين ويدفن في القدس.

عُد رحيل الفنان التشكيلي والمؤرخ والأديب كمال بلاّطة (1942 القدس- 2019 برلين)، المُغيب عن ملاحقنا وفعالياتنا وأخبارنا الثقافية، أحد أفدح خسارات الفن والبحث في الفنون والخط والعمارة والتراث، فلسطينيا وعربيا وحتى عالميا.

أطلق عليه من قبل الكثيرين من المهتمين بالفنون التشكيلية وخاصة الفن المقاوم، بأنه مؤسس فن “الغرافيك” الثوري الفلسطيني.

رثاه الكاتب والشاعر مريد البرغوثي: وفقدنا العظيم كمال بلاّطة. أعطى فلسطين أجمل ألوانها وأنطقها بأفصح اللوحات ورحل قوياً كما يلبق بمحارب.

 


الباحث والكاتب زكريا محمد، قال: عرفت كمال قبل سنوات. تواصلنا عبر الإيميل قليلا، لكن هذا لم يدم طويلا. غير أن شخصيته فتنتني في اللقاءات القليلة المصادفة التي جمعتنا. بل وبدا لي في بعض اللحظات أن شخصيته الحية أشد عمقا من نتاجه.. شخصية بسيطة مرحة ساخرة عميقة ساذجة فاتنة متسائلة تبحث عن الجذور والأصول. هناك أناس تتفوق أعمالهم على شخصياتهم. وهناك آخرون مثل كمال تتفوق شخصياتهم على أعمالهم، حتى لو كانت هذه الأعمال متقنة أو جميلة.

فيما كتب الكاتب حسن خضر: بلادنا في نظر المضاربين في سوق الدم، الذين خرجوا من كهوف بعيدة، هي التي تقايض، على الملأ، وبلا حياء، شبّاناً فقدوا أطرافهم بخمسين من الدولارات. ولكن، هذه ليست سوى لطخة صغيرة في مشهد كبير. فثمة فلسطين خضراء ويانعة، نذكر جمالها اليوم في وداع كمال بلاّطة، الذي أنجبته، فبمثله تحضر عفيّة وبهية، وتسكب في يوم رحيله دمعة عليه. ليتنا نملك ما يُعيد إلى شبّان كالورد أطرافهم، ويعيد المضاربين إلى كهوفهم البعيدة، ويُعيد كمال بلاّطة إلى بلاده في كل مَنْ وُلدوا، على أرضها وفي المنافي، اليوم.

أخيراً، يعرف الكثيرون الكثير عن كمال بلاّطة، ولكن ثمة ما لا يعرفه الكثيرون: هو الذي صمم لوغو فصلية “الكرمل” بطلب من محمود درويش.

بلاّطة، نشأ في الحي المسيحي في البلدة القديمة، وتلقّى تعليمه الابتدائي في مدرسة الإخوة (الفرير)، ثم تابع تعليمه الثانوي في مدرسة المطران (مدرسة السان جورج) التي تخرّج منها في سنة 1960.

تعلم بداية الستينيات في محترف خليل الحلبي داخل أسوار القدس القديمة فن رسم الأيقونات، بعد ذلك سعى عشّاق الفنون من السلك الديبلوماسي في الأردن للحصول على لوحاته المائية التي كان يرسمها مباشرةً أمامهم. وبفضل مبيعات لوحاته في المعارض التي نُظِّمت في القدس وعمان، تمكّن من السفر إلى إيطاليا فدرس الفن في “أكاديمية الفنون الجميلة” في روما (1961– 1965)، ثم تابعها بثلاث سنوات دراسية (1968-1971) في معهد متحف كوركوران للفنون في واشنطن .

 


قطع إقامته سنة 1974 في واشنطن وانتقل إلى بيروت، حيث عُيِّن لفترة قصيرة مديراً فنياً في “دار الفتى العربي”، ووضع التصميم والقالب لكل المطبوعات التي صدرت عن الدار في الأعوام اللاحقة، واشتهر برسم بعض أغلفة مجلات (مواقف) اللبنانية و(شؤون فلسطينية) في بيروت.

عاش في الولايات المتحدة الأميركية (1968-1992)، والمغرب (1993-1996)، وفرنسا (1997-2012). ومنذ انتخابه زميلا في معهد الدراسات المتقدمة في برلين في 2012-2013، يعيش ويعمل مع زوجته في العاصمة الألمانية.

أقام عدة معارض شخصية في القدس وعمان وأبو ظبي والمنامة وبغداد والرباط وباريس وموسكو وأوسلو وطوكيو ولندن وأمستردام، وصدر لـه كتاب “استحضار المكان– دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر” عام 2000، بتونس اشتمل على 300 صورة لأعمال فنية لفنانين فلسطينيين، وهو الكتاب الرابع عن الفن التشكيلي الفلسطيني، بعد كُتب (المناصرة 1975– شمّوط 1989– محظيّة 1997).

أعماله محفوظة في مجموعات خاصة وعامة، منها: المتحف البريطاني في لندن والمتحف الإسلامي في قصر الحمراء في غرناطة، ومعهد العالم العربي في باريس، ومكتبة نيويورك العامة في نيويورك، ومكتبة لوي نوتاري في موناكو، ومتحف زيمرلي للفنون في نيو برونسويك في نيو جرسي، والمتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة في عمان.

خلال سنتي 1993 و1994، أجرى بلاّطة بحوثا ميدانية حول الفنون الإسلامية في المغرب وإسبانيا. وفي سنة 2001، حاز منحة من مؤسسة فورد الأميركية لإنجاز بحث ميداني حول الرسم في فلسطين بعد الحقبة البيزنطية. وفي السنوات الأخيرة تلقى تكريمات من بينها: جائزة “جبران خليل جبران للروح الإنسانية” لعام 2017 عن مجمل تجربته التشكيلية من “المعهد العربي الأميركي” في واشنطن، و”جائزة محمود درويش للإبداع” في آذار الماضي.

 


بلاطة الذي تعرض لسرقة أعماله وتعبه من قبل الباحثة الإسرائيلية غانيت أنكوري، أستاذة تاريخ الفن في الجامعة العبرية في القدس المحتلة والأستاذة الزائرة في جامعة هارفارد، حيث استخدمت أبحاثه ونسبت مضمونها لنفسها في أطروحة صدرت عام 2006 في لندن بعنوان “الفن الفلسطيني”. ما دفعه لتوجيه رسائل قوية لموقع الجزيرة بالإنجليزية الذي قام بنشر حوار مع السارقة للتحدث عن انتاجها “المسروق”، يدافع فيها عن ملكيته الفكرية ويفضح السرقة، ما دفع ناشر أنكوري التحايل في الأطروحة وتحويل السرقة إلى مقتبسة من “مجهول“!.

عمل على أبحاث وترجمات شعرية منها لأدونيس، ولأنطولوجيا شعرية بالإنجليزية تحت عنوان “نساء الهلال الخصيب” (1981). كما عمل على كتاب يضم رسومات لأطفال فلسطين إبان انتفاضة 1987 بعنوان “شهادة الأوفياء، أطفال فلسطين يعيدون خلق عالمهم” (1990)، بالإضافة إلى رسمه حوالي 200 ملصق سياسي بالعربية وبالإنجليزية لصالح الثورة الفلسطينية. لكن تأريخه للفن الفلسطيني ودراساته عن تأثير الكلمة والخط العربي في فن العمارة الإسلامية، يبقى الأبرز في تجربته. بلاطة الذي يتحدث الفرنسية والإنجليزية والألمانية سينتقل إلى فرنسا وبعدها إلى برلين. يستعير بُلاطة مفهوم “الرحّال” كما يشرحه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز عند الحديث عن تجربته الفنيّة والحياتيّة. إنه رسّام ومؤرخ رحال تعيش القدس دائماً في باله. وقد درّب نفسه على عدم التوطن في أي بلاد، ما دامت بلاده محتلة.” من حوار عام 2014 منشور في العدد الرابع في مجلة “كانفاس بالعربية.

الاخبار العاجلة