الاستفتاء على خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي

13 يونيو 2016آخر تحديث :
الاستفتاء على خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي

مراد شاهين
في الثالث والعشرين من حزيران الجاري سيصوت الشعب البريطاني في استفتاء عام ليقرر ما إذا كان يريد ان تبقى بلاده (المملكة المتحدة) في الإتحاد الأوروبي ام لا. ويأتي هذا الإستفتاء على خلفية الوعد الذي قطعه رئيس حكومة الإئتلاف الحاكم آنذاك ورئيس الوزراء، ديفيد كاميرون في 2015، للأمة ضمن برنامجه الإنتخابي مفاده انه في حال فوز حزب المحافظين بزعامته فإنه سيطرح مسألة بقاء بريطانيا عضوا كاملا في الإتحاد الأوروبي للإستفتاء الشعبي. وبالفعل تسير بريطانيا هذه الأيام نحو العد التنازلي لذلك الإستحقاق.
تاريخيا لجأت الأحزاب الحاكمة (تقريبا دائما حزب المحافظين) البريطانية الى الإستفتاء العام أحدى عشرة مرة خلال اقل من اربعين عاما- منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي. والظروف التي تجري فيها الإستفتاءات تلخص كالآتي: عندما تكون القضية التي يُراد اتخاذ القرار فيها مثار جدل عميق يؤدي الى انقسام في الأوساط الشعبية والنخبوية على حد سواء. ثانيا، يكون اللجوء الى الإستفتاء العام كمخرج للحزب الحاكم الذي لا يتمتع بتأييد اغلبية مريحة في البرلمان ويخشى المخاطرة بمستقبله السياسي، في الانتخابات التالية. وأخيرا، عندما تكون القضية بالنسبة للبلاد مصيرية ولا يريد الحزب في السلطة ان يتحمل المسؤولية التاريخية في مثل هكذا قضية. فعلى سبيل المثال، في العام 1973 عرضت حكومة المحافظين بزعامة رئيس الوزراء ادوارد هييث مسألة دخول بريطانيا الى عضوية السوق الأوروبية المشتركة للإستفتاء العام. وبعد دخولها عضوية السوق الأوروبية استُفتي الشعب البريطاني عام 1975 على ما إذا كان يريد أن تستمر بلاده في عضوية التكتل الإقتصادي والسياسي الأوروبي. والمرة الأخيرة عام 2010 عندما عرضت حكومة الإئتلاف بزعامة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون مسألة تغيير النظام الإنتخابي للإستفتاء العام ايضا.
يُشار هنا الى أن الإستفتاءات العامة إجراءً دستورياً لا شك في مدلولاته الديمقراطية في المجتمعات التي تؤمن بأن شعوبها صانعة مصيرها بنفسها. فمنذ طرح الفكرة قبل حوالي سنة والى اليوم يجري تناول مسألة الإستفتاء والقضية المزمع الإستفتاء عليها في مئات الحوارات والدراسات والنشرات الدعائية والإعلامية في بريطانيا كما في بقية الدول الأعضاء، يشارك فيها جميع المكونات الوطنية الشعبية والسياسية والمثقفة. وبالإضافة الى أن عضوية بريطانيا كانت دائما محط جدل واسع وشديد التعقيد، فهنالك دائما دولة رائدة في أوروبا تأخذ على عاتقها منحى يبدو فيه شذوذاً صريحاً عن الإجماع الأوروبي في محاولة لِلجْم تهور أوروبا في اتجاهات مضرة بجوهر الحلم الأوروبي الأول. فلقد سبق ان قامت فرنسا بهذا الدور في عهد شارل ديغول الذي رغم انبعاث النواة الأولى للإتحاد الأوروبي من بلاده الا انه اعاق مسيرة التكامل في مراحلها الإبتدائية لعدة سنوات لكي يعيده الى مسارِ اكثر استواءً.
إن ما لا شك فيه ان الدول الأعضاء في الإتحاد الاوروبي وصلت في اندماجها الإقتصادي والقانوني وتقاربها السياسي الى حد اللاعودة. فلقد اصبحت الهوية الأوروبية الموحدة واضحة المعالم والتجليات اوروبياً وعالمياً من خلال بنيته المؤسسية وعلاقاته الدولية. فالشعوب الأوروبية تتمتع اليوم بأمن ورفاه غير مسبوقين في ظل الاتحاد، ومكانة عظمى اقتصاديا وسياسيا على الصعيد الدولي. ومن هذا المنطلق ليس لبريطانيا مصلحة في إحدات ثقب في السفينة الأوروبية بقصد تخريبها أو إغراقها لأنها تعي تماما ان تفكك الإتحاد الاوروبي قد يعني عودة اوروبا الى صراعات توازن القوى التي اغرقتها والعالم معها في كارثتين عالميتين في القرن الماضي.
هنالك بعض المؤشرات على اهمية بريطانيا للإتحاد الأوروبي نذكر منها الأهم على سبيل المثال لا الحصر: فهي تشكل حوالي 12.6% من مجموع سكان الإتحاد الأوروبي البالغ اليوم حوالي نصف مليار نسمة. كما ان بريطانيا تشكل سوقاً لحوالي 16% من مجمل البضائع المصدرة من دول الإتحاد وفيها ما يعرف بــِ (City of London) المركز المالي العريق ذا السمعة الرفيعة على المستوى العالمي. وهي مساهماً ايجابيا لخزينة الإتحاد بما يساوي 18 مليار جنيه استرليني سنويا بحسب احصائيات عام 2016، مقابل 5 مليار جنيه استرليني مجموع ما تتلقاة بريطانيا من الإتحاد. ويقدر مجموع ما دفعته بريطانيا منذ اصبحت عضواً في الإتحاد الأوروبي أكثر من نصف تريليون جنيه استرليني. وعلى الصعيد الأمني والعسكري فان بريطانيا ايضا من اكثر وأقوى الدول الأعضاء في الإتحاد تسلحاً. وبذلك ترى بريطانيا ان ثقلها الإقتصادي والتجاري والعسكري يجب ان يُوازى بمرتبة متقدمة في صناعة القرار والتأثير فيه اوروبيا. وهي لا تشعر انها تتمتع بهذه المرتبة خصوصا في السنوات الأخيرة حيث يقف الإتحاد في وجه تغيرات كبيرة في موازين القوة السياسية والأمنية والإقتصادية عالميا. كما لا يروق لبريطانيا ان تكون عضوا تابعا في مشروع أوروبي تحتكر فيه المانيا دور الريادة وإيجاد الحلول لمشاكله بما يتناغم مع مصالح ألمانيا على حساب قوة اساسية مثل بريطانيا.
على اية حال، لا يجوز تفسير الإستفتاء على مستقبل علاقة بريطانيا بالإتحاد الأوروبي على انه أكثر من جرس انذار حان وقته لإيقاظ صُنّاع القرار في بروكسيل من غفلتهم عن المصالح الحيوية لأعضائها من أصحاب الوزن الثقيل، اوروبيا وعالميا، كبريطانيا ولإعادة تذكيرهم بأن القرار الأوروبي يجب ان يكون اوروبيا مشتركا لا يجوز لقوة واحدة التفرد فيه. ولكن لا يجوز ايضا تحميل بروكسيل كل المسؤولية عن الخلل الحاصل في العلاقات بينها وبين لندن. فبريطانيا نفسها تتحمل جزء من عبء المسؤولية عن ذلك الخلل. فلقد جرت العادة عند حزب المحافظين ان ينظروا الى عضوية بلادهم في الإتحاد الأوروبي على انها مأساةً لم يكن بمقدور بريطانيا تفاديها. فبدل ان تُعمق بريطانيا تدخلها ومبارتها في توثيق البيت الأوروبي من خلال المشاركة المخلصة في الجهود المشتركة لذلك وللتصدي للتحديات التي تواجه اوروبا عمدت بريطانيا الى التشكيك في كفاءة اوروبا وصدقية نواياها.
حتى اليوم تشير استطلاعات الرأي البريطانية الى ان من يؤيدون بقاء بريطانيا في الإتحاد الأوروبي يتفوقون على المعارضين بفارق عشر نقاط –فارق كبير. وهذا يوحي بأن الغالبية العظمى ممن سيدلون بأصواتهم على دراية بأهمية بقاء بلادهم عضوا كاملا في الإتحاد الأوروبي لسنوات قادمة. فبعد فرز النتائج في اليوم التالي سيتنفس جميع الأطراف – بمن فيهم حزب المحافظين – الصعداء على وقع المفاجأة (المتوقعة) وهي التصويت بأغلبية واضحة لصالح البقاء في الإتحاد الأوروبي. وبعد ذلك يتعين على بروكسيل الوقوف امام اعضاء الإتحاد وإجراء إعادة تقييم لكثير من المواقف والحسابات.

الاخبار العاجلة