وتعود القصة لعام 2018، عندما اكتشف علماء الآثار “جنازة” مصرية قديمة عميقة تحت رمال سقارة، مدينة الموتى المترامية الأطراف، والتي تقع على ضفاف النيل على بعد أقل من 32 كم جنوب القاهرة.

وفي العامين التاليين، أسفر التحليل الشامل للاكتشافات الجديدة في المقابر عن الكثير من المعلومات حول “عالم الموت” في مصر القديمة، حسب ما أشار له تقرير منبثق على فيلم وثائقي لقناة “ناشيونال جيوغرافيك”.

ولقرون، تركز علم الآثار في أرض الفراعنة على الكشف عن النقوش والتحف من المقابر الملكية بدلا عن تفاصيل الحياة اليومية.

ورش التحنيط كانت موجودة في المقابر في جميع أنحاء مصر، ولكن تم تجاهلها عبر أجيال من الباحثين، هرعوا للوصول إلى المقابر تحتها.

ولكن الآن مع الاكتشافات في سقارة، يتغير كل ذلك مع اكتشاف الأدلة الأثرية لعالم ثري من “تجارة الجنازة”، وتوثيقها بالتفصيل للمرة الأولى.

حس تجاري

وقال رمضان حسين، عالم المصريات بجامعة توبنغن بألمانيا: “الأدلة التي اكتشفناها تظهر أن المحنطين لديهم حس تجاري جيد جدا.. لقد كانوا أذكياء للغاية بشأن توفير الاختيارات للموتى”.

من الأمثلة التي ضربها حسين، الأقنعة التي تغطي وجه الشخص المتوفي، والتي تكون أحيانا من الذهب والفضة، ولكنها في أحيان أخرى، تكون من مواد تحمل نفس اللون والبريق، ولكنها أقل تكلفة، مما يعني أن المحنطين وفروا اختيارات أقل تكلفة لمن لم يستطيعوا تحمل تكلفة القناع الذهبي.

وخلال بحثه الدؤوب في سقارة، عثر حسين وفريقه من الباحثين على غرفة كبيرة جدا، اكتشف لاحقا أنها ورشة تحنيط أثرية، تحمل قوة إنتاجية هائلة وقنوات تصريف لتدفق الدم، ونظام تهوية طبيعي.

ومثل اكتشاف حسين الاكتشاف هدية ثمينة للعلماء الذين يدرسون ممارسات الدفن المصرية القديمة، ويقدمون نظرة فريدة على الطقوس المقدسة – والوقائع الجريئة – للتحنيط.

ووفقا “لناشيونال جيوغرافيك”، المصريين القدماء اعتقدوا أن الجثمان يجب أن يبقى سليما لإيواء الروح خلال الحياة الآخرة، فكان التحنيط مزيجا من الطقوس المقدسة والإجراءات الطبية.

وكانت العملية عبارة عن طقوس مدبرة بعناية، حيث تم أداء طقوس وصلاة محددة يوميا على مدار 70 يوما لتحويل الشخص الميت إلى مومياء.

وقال حسين إن قطاع العمل في الجنازات والدفن كان “صناعة ضخمة” في مصر القديمة.

ولعل الأهرامات الشاهقة للفراعنة والذهب البراق في قبر الملك توت عنخ أمون، هي لمحات للتذكير بتقاليد الفراعنة الذين أنفقوا الكثير لتأمين “حياة أبدية” راقية، لما بعد الموت.

وفي حين تم تحنيط نخبة الفراعنة في توابيت مزخرفة بشكل متقن ومقابر واسعة مليئة بالسلع الثمينة، أظهر بحث أعده حسين أن المتعهدين القدماء قدموا حزما للدفن تناسب كل ميزانية.

وفي المصطلحات التجارية اليوم، كانوا يلائمون جميع متطلبات السوق، حيث قدموا كل شيء بدءا من نزع الجثث والدفن إلى رعاية وصيانة أرواح المتوفين – كل ذلك مقابل رسوم بالطبع.

مقابر تلائم كل المستويات

وعلى بعد خطوات قليلة من ورشة التحنيط في سقارة ، اكتشف علماء الآثار عمودا ثانويا يؤدي إلى مجمع من 6 مقابر. داخل تلك القبور الستة كانت أكثر من 50 مومياء.

وفي الجزء السفلي من العمود – ما يقرب من 100 قدم تحت السطح، حيث كانت الأماكن أكثر تكلفة بسبب “قربها” من العالم السفلي – كانت المدافن متقنة ومكلفة بشكل خاص.

وكان من بينهم امرأة وضعت داخل تابوت من الحجر الجيري يزن 7 أطنان ونصف.

وفي غرفة مجاورة كانت امرأة وجهها مغطى بقناع مصنوع من الفضة والذهب، كان هذا أول قناع يتم العثور عليه في مصر منذ أكثر من نصف قرن.

لكن المجمع كان يضم أيضا مصريين من الطبقة المتوسطة أو الطبقة العاملة مدفونين في توابيت خشبية بسيطة، أو ملفوفة فقط في كتان وتوضع في حفر رملية.

وباستخدام أدوات رسم الخرائط ثلاثية الأبعاد، تمكن حسين من تجميع كيفية ترتيب المدافن.

وشمل المجتمع المصري القديم فئة كاملة من الكهنة مكرسين لرعاية أرواح الموتى.وتضمن وصف وظيفتهم وهي الحفاظ على القبور والصلاة من أجل أصحابهم المغادرين.

وللمرة الأولى، تؤكد الأدلة الأثرية ما تم استنتاجه عن طريق النقوش والوثائق القانونية القديمة منذ آلاف السنين.

وقال موقع “ناشيونال جيوغرافيك” إن هذه الاكتشافات هي جزء من التحول في علم المصريات: حيث يبحث العلماء بجد أكثر عن التفاصيل التي تركز على حياة المصريين العاديين، بدلا من التركيز على أفخم المقابر.

وأثناء بحثه عن تقارير حفر قديمة، أدرك حسين أن العمود المؤدي إلى ورشة التحنيط كان على بعد أقل من 3 أقدام من حيث توقفت الحفارات الفرنسية والمصرية في عام 1899. وكانت الغرفة ومحتوياتها مخفية بالرمل الذي جرفوه على عجل.