الفوضى السياسية المتوقعة ما بعد كورونا.. أمريكا والصين في عين العاصفة

7 مايو 2020آخر تحديث :
الفوضى السياسية المتوقعة ما بعد كورونا.. أمريكا والصين في عين العاصفة

أبدت مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية في يناير /كانون الثاني، وفبراير/ شباط، من هذا العام سعادتها، حيث رأى بعض المراقبين أن الفقاعة الجغرافية السياسية الصينية العملاقة قد بدأت تنكمش أخيرًا.

ورأى المحللون وقتها، أن قيادة الحزب الشيوعي الصيني بدأت تتفكك، نتيجة هوسها بالسرية، وأخطائها الأولية في الاستجابة لتفشي فيروس كورونا المستجد، والمذبحة الاقتصادية التي تتكشف في جميع أنحاء البلاد.

ومع ذلك، عندما بدأت الصين في التعافي وانتقل الفيروس إلى الغرب في مارس/آذار،  وأبريل/نيسان، تحول الابتهاج المتهور إلى يأس مبالغ فيه.

واستقبل المعلقون أي احتمال أن يساعد الوباء الصين في الواقع على الخروج منتصرة في المسابقة الجيوسياسية الجارية مع الولايات المتحدة، باستهجان، وكان هذا القلق ناتجًا عن إعادة تشكيل الصين الماكرة لرواية أصل الفيروس، والفعالية المذهلة للنموذج الاستبدادي الصيني في احتواء الوباء، وحملة بكين العالمية لمساعدة العالم على التغلب على كوفيد-19.

ووفقًا لصحيفة “فورين أفيرز”، انهالت التعليقات الوطنية الصينية على الحكومة، وأضافت إلى غضب الولايات المتحدة، وأبرزت التباين المفترض بين السخاء الصيني واللامبالاة الأمريكية، وزعمت الصين أنها قد انتصرت في “حرب الشعب” ضد فيروس كورونا كوفيد-19، وأن فضائل النموذج السياسي الصيني قد ظهرت للجميع.

ومع ذلك، على الرغم من جهود المحاربين الإيديولوجيين في بكين وواشنطن، إلا أن الحقيقة هي أنه من غير المرجح أن تخرج الصين، والولايات المتحدة، من هذه الأزمة سالمة، ولن تنهض الولايات المتحدة أو الصين أقوى من السابق، وستضعف كلتا القوتين، في الداخل والخارج.

السلطة والمظهر

كما هو الحال مع نقاط التحول التاريخية الأخرى، ستشكل 3 عوامل مستقبل النظام العالمي: التغيرات في القوة العسكرية والاقتصادية النسبية للقوى العظمى، وكيف يُنظر إلى هذه التغييرات في جميع أنحاء العالم، والإستراتيجيات التي تستخدمها القوى العظمى.

وبناءً على العوامل الثلاثة، لدى الصين والولايات المتحدة سبب للقلق بشأن نفوذهما العالمي في عالم ما بعد الوباء.

وخلافًا للاعتقاد السائد، تلقت القوة الوطنية الصينية ضربة في هذه الأزمة على مستويات متعددة، فقد أوجد تفشي المرض انشقاقًا سياسيًا كبيرًا داخل الحزب الشيوعي الصيني، وأثار انتقادات لأسلوب القيادة المركزي للرئيس شي جين بينغ.

وانعكس هذا في عدد من التعليقات شبه الرسمية التي شقت طريقها بشكل غامض إلى مسمع العامة خلال أبريل/ نيسان.

وعلى الرغم من أن حظر شي الصارم لنصف البلاد لمدة شهور لمنع انتشار الفيروس لاقى ترحيبًا واسع النطاق، إلا أنه لم يخرج سليمًا، حيث يحتدم الجدل الداخلي حول العدد الدقيق للوفيات والمصابين، حول مخاطر آثار الموجة الثانية مع إعادة فتح البلاد ببطء، وعلى الاتجاه المستقبلي للسياسة الاقتصادية والخارجية.

وكان الضرر الاقتصادي هائلًا، وعلى الرغم من محفزات العودة إلى العمل المعتمدة في الصين، إلا أنه من المستبعد أن يعوض أي قدر من التحفيز المحلي في النصف الثاني من عام 2020 عن الخسائر في النشاط الاقتصادي في الربعين الأول والثاني.

وسيزيد التخفيض الاقتصادي الجذري بين الشركاء التجاريين الرئيسين للصين من عرقلة خطط الانتعاش الاقتصادي، بالنظر إلى أن القطاع التجاري قبل الأزمة كان يمثل 38 % من الناتج المحلي الإجمالي.

وبشكل عام، من المرجح أن يكون معدل نمو الاقتصاد الصيني لعام 2020 حوالي صفر، وهو أسوأ أداء منذ الثورة الثقافية قبل 5 عقود.

وتبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الصين حوالي 310 %، مما يشكل عبئًا على أولويات الإنفاق الصينية الأخرى، بما في ذلك التعليم والتكنولوجيا والدفاع والمساعدات الخارجية.

وبالنسبة لقوة الولايات المتحدة، فقد تركت الإدارة الفوضوية لإدارة ترامب انطباعًا لا يُمحى في جميع أنحاء العالم كبلد غير قادر على التعامل مع أزماته الداخلية، ناهيك عن مساعدة الآخرين.

والأهم من ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة ستخرج من هذه الفترة كدولة نظامية أكثر انقسامًا بدلًا من وحدة موحدة، كما هو الحال عادة بعد أزمة وطنية بهذا الحجم، ويضيف هذا التمزق المستمر للمؤسسة السياسية الأمريكية مزيدًا من القيود على القيادة العالمية للولايات المتحدة.

وفي الوقت نفسه، تشير التقديرات المتحفظة إلى انكماش الاقتصاد الأمريكي بنسبة تتراوح بين 6 و14 % في العام 2020، وهو أكبر انكماش فردي منذ انكماش نهاية الحرب العالمية الثانية. وكانت التدخلات المالية التي قامت بها واشنطن تهدف إلى إيقاف الانزلاق، تصل بالفعل إلى 10 % من الناتج المحلي الإجمالي، مما دفع نسبة الولايات المتحدة من الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 100 %، أي أقرب ما يمكن من الرقم القياسي الذي سجلته في زمن الحرب والبالغ 106 %.

وتمكن حالة العملة الاحتياطية العالمية للدولار الأمريكي الحكومة من الاستمرار في بيع سندات الخزانة الأمريكية لتمويل العجز.

ومع ذلك، فإن الدين المتراكم سيقيد إنفاق ما بعد الانتعاش عاجلًا أم آجلًا، بما في ذلك تمويل الجيش.

وهناك أيضًا خطر أن تتحول الأزمة الاقتصادية الحالية إلى أزمة مالية أوسع، على الرغم من أن الاحتياطي الفيدرالي، والبنوك المركزية الأخرى لمجموعة العشرين، وصندوق النقد الدولي نجحت حتى الآن في التخفيف من تلك المخاطر.

ولدى القادة الصينيين نظرة لينينية بسيطة لقوة الولايات المتحدة، وهي أنها ترتكز على عمادين أساسيين: الجيش الأمريكي، والدولار الأمريكي، وكل شيء آخر مجرد تفاصيل.

وعلى الرغم من جهود الدبلوماسيين الصينيين المضنية، فالحقيقة هي أن مكانة الصين تلقت ضربة كبيرة، فقد ظهرت مشاعر معادية للصينيين عقب انتشار الفيروس في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك دول، مثل: الهند، وإندونيسيا، وإيران، وباتت القوة الناعمة الصينية معرضة للخطر.

ولن تخرج الولايات المتحدة من الأزمة سالمة لعدة أسباب، فقد كان العالم يراقب مفزوعًا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وهو لا يتصرف كزعيم للعالم الحر بل كدجال يوصي بـ “علاجات” غير مثبتة، وشاهد العالم ما يعنيه شعار “أمريكا أولًا”، وأنه عمليًا يعني “لا تنتظروا مساعدة الولايات المتحدة في الأزمات العالمية، لأنها لا تستطيع حتى الاعتناء بنفسها”.

علاقة تصادمية

يبدو أن الأزمة قد مزقت ما تبقى من العلاقات الأمريكية الصينية، وفي واشنطن، لم تعد فكرة العودة إلى عالم “المشاركة الإستراتيجية” مع بكين قبل العام 2017 مقبولة.

ومن المرجح أن تترجم فترة حكم ترامب الثانية إلى فصل أكبر بين القوتين وربما محاولة تقييد لنفوذ الصين، إذا فاز بالانتخابات المقبلة، ولكن إذا نجح منافسه جو بايدن بالانتخابات الرئاسية المقبلة، ستستمر المنافسة الإستراتيجية، وحتى الفصل في بعض المجالات، ولكن من المرجح أن يتم تنفيذ ذلك على أساس أكثر منهجية، وأن يتضمن ترك فرصة للتعاون في مجالات محددة، مثل: المناخ، والأوبئة، والاستقرار المالي العالمي.

وبشكل عام، تفضل بكين إعادة انتخاب ترامب على البديل، لأنها ترى قيمة في ميله إلى كسر التحالفات التقليدية، والانسحاب من القيادة المتعددة الأطراف، وإفساده لإستراتيجية الولايات المتحدة لمنافسة الصين. وفي كلتا الحالتين، ستصبح علاقة الولايات المتحدة مع بكين أكثر تصادمية.

وقبل وصول شي للحكم، كانت الإستراتيجية الصينية تعتمد على الانتظار حتى تتحول القوى الاقتصادية والعسكرية لصالح الصين قبل السعي إلى أي تعديلات رئيسة على النظامين الإقليمي والدولي، بما في ذلك تايوان، وبحر الصين الجنوبي، ووجود الولايات المتحدة في آسيا.

وتحت حكم شي، أصبحت بكين أكثر حزمًا بشكل كبير، حيث أخذت مخاطر محسوبة وناجحة حتى الآن لإحداث تغييرات على أرض الواقع، كما يتضح من استصلاح الجزر في بحر الصين الجنوبي ومبادرة الحزام والطريق (BRI).
فقد اعتبر رد فعل الولايات المتحدة على هذا النهج قابلًا للإدارة، ولكن هذا الأسلوب يمكن أن يتغير في عالم ما بعد الحرب التجارية والوباء.

ويمكن أن يسعى “شي” إلى تخفيف التوترات مع الولايات المتحدة حتى يتم نسيان الوباء من الذاكرة السياسية، ولكن من الممكن أن يتخذ نهجًا أكثر قومية في مواجهة تحديات داخلية.

ومن المرجح أن يظهر كلا الاتجاهين في سلوك السياسة الصينية حتى تنتهي عملية مراجعة السياسة الداخلية للصين، وهو أمر قد يتم تأجيله حتى قبل وقت قصير من مؤتمر الحزب الشيوعي العشرين في عام 2022، ولكن أسلوب “شي” حتى الآن يشير إلى أن يلتزم بموقفه في مواجهة أي معارضة داخلية.

وهذا قد يعني تشديد موقف الصين تجاه الولايات المتحدة، بما في ذلك في قضايا مثل تايوان، والتي تعد العنصر الأكثر زعزعة للاستقرار في العلاقات الأمريكية الصينية. ومن المرجح أن تشحذ بكين إستراتيجيتها لتقليص المساحة الدولية لتايوان، حتى مع تكثيف جهود الولايات المتحدة لتأمين إعادة انضمام تايوان إلى منظمة الصحة العالمية.

وإذا انهارت هذه الاتفاقيات، فسيكون من المرجح أن يحدث شكل من أشكال المواجهة العسكرية بين الصين والولايات المتحدة حول تايوان، كنتيجة غير مقصودة للفشل في إدارة الأزمة.

حرب باردة جديدة

وقبل الأزمة الحالية، كان النظام الدولي الليبرالي قد بدأ بالفعل في التفكك، حيث كانت القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة، والتي تعد حجر الزاوية الجيوسياسي الذي يستند عليه النظام، تتحدى الصين، أولًا إقليميًا ومؤخرًا على الصعيد العالمي.

وكانت إدارة ترامب تضيف إلى مشاكل النظام من خلال إضعاف هيكل التحالف الأمريكي ونزع الشرعية عن المؤسسات المتعددة الأطراف تدريجيًا، مما خلق فراغًا سياسيًا ودبلوماسيًا كانت الصين قادرة على استغلاله، وكانت النتيجة عالمًا مفككًا وفوضويًا.

ومن المرجح أن تعزز الأزمة الحالية مثل هذه الاتجاهات، وسيحدد التنافس الإستراتيجي الآن كامل نطاق العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، في شتى المجالات بما في ذلك العسكرية، والاقتصادية، والمالية، والتكنولوجية، والأيديولوجية، وبات أكثر تأثيرًا على علاقات بكين وواشنطن مع الدول الثالثة.

وحتى الأزمة الحالية، كانت فكرة أن العالم دخل في حرب باردة جديدة، تبدو سابقة لأوانها، إذ كان النظامان الماليان للبلدين متشابكين جدًا لدرجة أن الانفصال الحقيقي كان مستبعدًا، وبدا أنه من المستبعد أيضًا أن تحدث حروب بالوكالة بين القوتين العظمتين في بلدان ثالثة، كما حدث في التنافس بين الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي.
إلا أن التهديدات الجديدة التي يوجهها كلا الجانبين مع تزايد التوترات المتعلقة بـ”كوفيد-19″ يمكن أن تغير كل ذلك، فمن شأن اتخاذ واشنطن لقرار يتضمن إنهاء استثمارات صناديق المعاشات الأمريكية في الصين، أو يقيد شراء الشركات الصينية مستقبلًا لسندات الخزانة الأمريكية، أو بدء حرب عملة جديدة، أن يدمر الروابط المالية التي تجمع الاقتصادين معًا.

وبالمثل، من شأن اتخاذ بكين لقرار بزيادة عسكرة مشروع “حزام واحد طريق واحد”، أن يزيد من خطر الحروب بالوكالة. علاوة على ذلك، مع نمو المواجهة بين الولايات المتحدة والصين، بدأ النظام المتعدد الأطراف والقواعد والمؤسسات التي تقوم عليه، في التعثر.

وأصبحت العديد من المؤسسات نفسها ساحات للتنافس. ومع تضرر الولايات المتحدة والصين، لا يوجد “مدير للنظام”، ليحافظ على النظام الدولي، وقد نكون قد وصلنا إلى حرب باردة جديدة بعد، ولكنها في منتصف الطريق.

وهناك بدائل أفضل لهذا السيناريو، لكنها تعتمد على تغيير سياسي كبير في واشنطن، وتعديل إصلاحي وأممي في بكين؛ وتطوير بنية جديدة للعلاقات بين الولايات المتحدة والصين مستوحاة من التجربة الأمريكية السوفيتية، والتي تضع معايير واضحة حول المنافسة من أجل تجنب الكارثة العسكرية؛ وجهود الدول الأخرى لجمع الموارد السياسية والمالية للحفاظ على المؤسسات المتعددة الأطراف الأساسية للنظام الحالي، لتهدئة الأمور حتى عودة الاستقرار الجيوسياسي.

الاخبار العاجلة