فهم الفيروسات على المستوى الذريّ

28 مايو 2020آخر تحديث :
فهم الفيروسات على المستوى الذريّ

تُعتبر الفيروسات من أهم مواضيع علم الأحياء البنيوي structural biology باعتبار هذه الكائنات الدقيقة أصغر أشكال الحياة على كوكبنا، بالإضافة إلى كونها بنفس الوقت أكبر الجزيئات الضخمة macromolecules التي تستدعي فهمها ودراستها على المستوى الذري. وتعتمد دراسة بنية الفيروسات على المستوى الذري على المجهر الالكتروني فائق البرودة cryogenic electron microscopy الذي أًصبح من أكثر الوسائل التقنية قوةً في دراسة البنى المجهرية بدقةٍ عالية وخصوصاً الفيروسات.

لمحة عن تاريخ دراسة شكل الفيروسات
إن أولى الصور التي نُشرت عن الفيروسات النباتية والحيوانية كانت من قبل الباحث هلمت رسكا عام 1939 باستعمال المجهر الإلكتروني النافِذ. في ذلك الوقت كان الباحثان برنال وفانكوتشن يعملان في مجال حيود الأشعة السينية X-ray diffraction من أجل دراسة بنى الفيروسات بعد تحضيرهما تركيزاتٍ عاليةً من فيروسَي تبرقش التبغ tobacco mosaic virus وتقزﹼم الطماطم tomato bushy-stunt virus فظهر الفيروس الأول بشكل خيطي filamentous والثاني بشكل كروي spherical.

لقد استمر عمل برنال في كلية بربك في لندن حيث عُينت روزاليندا فرانكلين Rosalind Franklin من أجل دراسة تفاصيل بنية فيروس تبرقش التبغ، فقد أظهرت شكل الفيروس اللولبي helical الذي يحوي بنىً فراغية تتكون من البروتينات protein والحمض الريبي النووي RNA. وبالاعتماد على هذه الدراسات افترض العالمان ذائعا الصيت واتسون Watson وكريك Crick الشكل عشرونيﹼ السطوح icosahedral للفيروسات الكروية. وبلغةٍ عفا عليها الزمن شُبه هذا الفيروس بحبة توت متناظرة تتكون من 60 وحدة بروتينية فرعية subunit

يمثل الشكل 1 رسماً للفيروس الكأسي القططي Feline calcivirus. المصدر
لم تكن النظريات الأولى حول الشكل عشروني السطوح للفيروسات الكروية كاملةً أو مقنعةً، حيث أظهرت وقتها الأبحاث وجود المئات من بروتينات القفيصة capsid ضمن بنية الفيروسات. فأحدث الباحثان كاسبار Caspar وكلغ Klug نظريةً تتحدث عن التغليف شبه المتكافئ quasi-equivalent packing للفيروسات عشرونية السطوح. فبحسب المعارف والتقانات المتوفرة في منتصف القرن الماضي تمكن الباحثان من فهم كيفية تشكل القفيصات الفيروسية بشكل أكبر وذلك عبر إجراء بعض التعديلات على الروابط الكيميائية ما بين الوحدات البروتينية الفرعية.

النمذجة الذرية لبنية الفيروسات
في عام 1978 نُشر أول نموذج ذري لفيروس تبرقش التبغ من قبل الباحث هاريسون Harrison مظهرا بنية القفيصة الفيروسية المتكونة من 180 بروتيناً. وتبع ذلك دراسة بنية فيروسين يعتبران عاملين ممرضين لدى البشر وهما الفيروس الأنفي rhinovirus المسبب لنزلات البرد (الزكام) من قبل مجموعة روسمان Rossman وفيروس شلل الأطفال من قبل مجموعة هوغل Hogel وقد نشر البحثان عام 1985. أظهرت هذه الدراسات الثلاث وجود طيﹼ بروتيني fold مشترك ضمن القفيصة الفيروسية لدى جميع تلك الفيروسات يتكون من صحيفة بيتا β-sheet مطوية على بعضها بشكل ما يسمى ببرميل بيتا β-barrel تتكون من ثمانية خيوط بيتا β-strand. يُدعى هذا الشكل jelly beta roll أو Swiss roll fold للتشابه بين شكل طي البروتين وحلوى السويسرول Swiss roll.

يمثل الشكل 2 طي سوسيرول. المصدر

عام 1968 ظهرت الإلكترونات كبديل للأشعة السينية في دراسة بنى الفيروسات حين نشر دوروسيه DeRosier وكلغ Klug صوراً مجهريةً لعاثية الأمعاء T4 phage تُظهر بدقةٍ منخفضة الذيل العضلي contractile tail المميز لهذه الفيروسات باستخدام المجهر الإلكتروني النافذ. وباستغلال التناظر اللولبي لذيل عاثية الأمعاء تم تجميع العديد من الصور المجهرية لهذا الفيروس ودراسة كثافة ذيل الفيروس بعد وسمه بملح لمعدن اليورانيوم الثقيل، تلته دراسة لمجموعة كروثر Crowther لتحديد الشكل عشروني السطوح للفيروس.

يمثل الشكل 3 أول صورة مجهرية لفيروس عاثية الأمعاء باستخدام المجهر الإلكتروني النافذ (المقياس 50 نانومترا). المصدر
للمجهر الإلكتروني النافذ حدوده فما كان من اختراع طرق التبريد العميق (التبريد إلى ما دون 180 درجة مئوية) إلا تطوير وتحسين أداء هذا المجهر بالتقاط صور ذات دقة أعلى.

يبين الشكل 4 صورة مجهرية لعاثية الأمعاء باستعمال المجهر الإلكتروني فائق البرودة. المصدر

يُظهر الشكل 5 رأس عاثية الأمعاء في نوعها البري بعد تجميع وبناء صور متعددة باستخدام المجهر الإلكتروني فائق البرودة إلى اليسار والمعدل وراثيا إلى اليمين. المصدر
نشرت مجموعة أدريان Adrian عام 1985 أول طريقة لحلﹼ الفيروسات ضمن طبقات رقيقة من الثلج اللابللوري vitreous/amorphous ice وهو عبارة عن ماء مبرد بشكل سريع دون السماح لجزيئات الماء بالانتظام في بللورات وتشكيلها الجليد/الثلج. وقد سمحت هذه الطريقة تصوير الفيروسات دون الحاجة للواسمات والمثبتات الكيميائية التي من شأنها أن تغير الحالة الأصلية لجسيم الفيروس. كان حينها لابد من إجراء بعض التطوير للمجهر الإلكتروني فائق البرودة للوصول إلى دقة 3-4 نانومتر (30-40 أنغشتروم) المتوفرة حاليا حيث تسمح هذه الدقة ببناء صورة ثلاثية الأبعاد تبين النموذج الذري للفيروسات.

التقدم التقني
حقق استعمال الجيل الأول من الكاميرات الرقمية ثورة في مجال المجهر الإلكتروني فائق البرودة من حيث تسهيل عملية تجميع البيانات بشكل آلي وخاصةً في مجال التصوير المقطعي tomography. إذْ يَسمح المجهر الإلكتروني فائق البرودة بتحليل ودراسة بنىً بيولوجيةً ذات أشكال فريدة، وذلك عبر تدوير هذه البنى ضمن جهاز المجهر والتقاط الصور من كل زاوية ووجه. تُجمع بعد ذلك هذه الصور (البيانات) وتُعالج حاسوبياً من أجل بناء نموذج ثلاثي الأبعاد بدقة معقولة، وقد استُعملت هذه التقنية لبناء نموذج ذري لقفيصة فيروس عوز المناعة البشري المكتسبHIV.

جُمعت بيانات أغلب هذه الدراسات التي جرت في العقد الماضي من المجهر الإلكتروني فائق البرودة والأشعة السينية لتكوين نموذج شبه ذري لمعقدات complex من الفيروسات والأجسام المضادة antibody. أما أول نموذج ذري حقيقي باستعمال المجهر الإلكتروني فائق البرودة نُشر عام 2008 من قبل مخبر هونغ جو Hong Zhou لجسيم واحد فقط من فيروس بوليهيدروسيس الهيولي cytoplasmic polyhedrosis virus. وقد أحدث هذا النوع من المجاهر نقلة نوعية منذ ذلك الوقت لكل محاولات بناء نموذج ذري للفيروسات عشرونية السطوح، وحتى وقت كتابة وترجمة هذا المقال نُشر أكثر من 175 نموذجاً ذرياً لبروتينات القفيصة من فيروسات مختلفة في قاعدة بيانات البروتينات protein data bank بدقة أصغر حتى من 40 نانومتراً، حيث نُشر مؤخرا نموذجان ذريان لفيروسين كبيرين نسبيا وهما فيروس الهربس البسيط herpes simplex virus وفيروس حمى الخنازير الإفريقي African swine fever virus بدقة عالية جداً.

ساهم التطور الكبير لبرمجيات معالجة وبناء الصور في الكشف عن اللاتناظر في بنى الفيروسات، وأهمية هذه الظاهرة في دورة حياة الفيروس. من الأمثلة الفيروس الكأسي calicivirus الذي يحتوي على بروتين القفيصة الأصغر VP2 والذي يشكل بدوره رأس بوابة أكبر بثلاث مرات مباشرةً بعد ارتباطه بالمستقبل الخلوي receptor حيث يُعتقد أن هذه الآلية تسمح للفيروس بحقن الجينوم الفيروسي (كل الجينات) genome إلى داخل الخلية.

بالنظر إلى مستقبل الأبحاث المتعلقة بدراسة بنى الفيروسات فإن كلتي التقنيتين: المجهر الإلكتروني فائق البرودة ومجهر الأشعة السينية يطرحان تحدياً كبيراً لدراسة الفيروس داخل الخلية in situ. وقد برز دور مجهر الأشعة السينية الناعمة فائق البرودة Cryo soft X-ray microscopy مؤخرا كأداة ممتازة لتصوير الخلية بشكل كامل مع المكونات الخلوية والتغيرات الطارئة على هذه المكونات بعد الإصابة الفيروسية. حيث يَِستخدم هذا النوع من المجاهر أشعةً سينية ذات طول موجة يتراوح بين 0.12 و 5 نانومتر. في حين أن المجهر الإلكتروني النافذ فائق البرودة يَستعمل إلكترونات ذات طول موجة يصل إلى 0.002 نانومتر، مما يسمح للباحثين بتجميع بيانات تتعلق ببنى الخلية المصابة بالفيروسات، وذلك ضمن الخلية، مما يعني أن فهمنا لبنى الفيروسات ضمن مواطنها الحيوية وهي الخلايا الحية أصبح قاب قوسين أو أدنى.

تسخير علم الأحياء البنيوي في أزمة الكورونا
في شهر كانون الثاني/يناير من هذا العام انتشر فيروس كورونا المستجد SARS-Coronavirus 2 في العالم منطلقاً من مدينة ووهان الصينية مسببا حالاتٍ مرضيةً شديدة وموت الآلاف عالمياً، مما أجبر عدداً كبيراً من المدن والبلدان على حظر تجول سكانها. تحرك العلماء على مختلف توجهاتهم لمعالجة هذه الأزمة، ومنهم علماء البيولوجيا البنيوية. فقد شهِدت السرعة الكبيرة في دراسة البنية الذرية لبروتينات فيروس كورونا على التطور الهائل الذي جرى على المجهر الإلكتروني فائق البرودة ودراسة البلورات بالأشعة السينية X-ray crystallogtraphy. فحتى تاريخ ترجمة هذا المقال تم نشر 29 دراسةً تبين بنية بروتينات فيروس كورونا المستجد في قاعدة بيانات البروتينات وتتضمن بروتين Mpro وهو إنزيم حال للبروتينات protease مرتبط بعدد من المثبطات inhibitors وبروتين S الذي يساعد الفيروس على ارتباطه بالخلية ودخوله إياها عند الأصابة، بالإضافة إلى معقد مكون من بروتين S الفيروسي والمستقبل الخلوي ACE2. فستساعد هذه البيانات الباحثين على تطوير العقارات المضادة للفيروسات antivirals واللقاحات vaccines ضمن إطار الجهود العالمية المبذولة للقضاء على هذه الجائحة.

خاتمة
يُعتبر فهم الفيروسات على المستوى الجزيئي والذري مفتاحاً لمنع انتشار الأمراض وإنقاذ حياة الإنسان، فيأتي بعد هذه المرحلة دور دراسات الالتحام الجزيئي molecular docking وهي دراسات حاسوبية تتطلب بنية بروتينات الفيروس بدقةٍ عالية من أجل تطوير جزيئة تستطيع الارتباط بشكل فعال مع هذه بروتينات، وفي حال أثبت أمن وفعالية هذه الجزيئة ضمن الجسم البشري يتم تصنيعها على نطاق واسع ويتم تقديمها كأدوية تمنع الفيروس من الارتباط والدخول إلى الخلايا، مما يمنح الجهاز المناعي الفرصة للقضاء على الفيروسات.

الاخبار العاجلة