بيت الحكمة

19 يونيو 2016آخر تحديث :
بيت الحكمة

منير فاشه
إنهاء الاحتلال على صعيد البذور والعقول:

خطوة ضرورية على طريق التحرر والعيش بحكمة

شاركْتُ خلال الأسبوع الماضي بلقاءين، الاول يوم 3/ 6 في قرية “بتير” احتفاءً بافتتاح “مكتبة البذور البلدية الفلسطينية” فيها، والثاني يوم 4/ 6 في “مركز خليل السكاكيني” حول “احتلال العقول”. فحوى اللقاء الأول مقاومة البذور المصنعة (في مصانع ضخمة مثل “مونسانتو”) عبر استعادة بذور بلدية عضوية حيّة، وفحوى اللقاء الثاني مقاومة مصطلحات وتصنيفات مصنعة (في مصانع ضخمة مثل “هارفارد”) عبر استعادة كلمات عضوية لها جذور في الحضارة وتستمد معانيها من الحياة. بعبارة أخرى، المقاومة الأولى هي ضد احتلال بذور مزورة غير قادرة على توليد ذاتها محل بذور هي جزء من دورة الطبيعة وقادرة على توليد ذاتها وتوليد الحياة؛ بينما المقاومة الثانية هي ضد احتلال مصطلحات مؤسسية وتصنيفات أكاديمية محل كلمات وتجريدات تنبع من الحياة وتستمد معانيها منها. تتلاقى المقاومتان عند نقطة: العيش وفق عافية وحكمة في الأكل والفكر؛ أي، عند نقطة نتخلّص فيها من احتلال ما هو مؤذٍ واستعادة ما هو مغذٍ. نبعت فكرة المكتبة من تجربة “ففيان صنصور” مع مزارعين على مدى سنوات، خاصة في منطقة جنين. ونبعت فكرة احتلال العقول من خبرتي مع التعلم والتعليم على مدى أربعة عقود، خاصة خلال الانتفاضة الأولى عندما قررت ترك جامعة بيرزيت وإنشاء “مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي” عام 1989. نشرت عام 1995 كتيّبا عبر “تامر” بعنوان “التحدي الرئيسي: إنهاء احتلال العقول؛ الوسيلة الرئيسية: خلق أجواء تعلمية”.

مشروع “مكتبة البذور البلدية الفلسطينية” يعكس عملا إبداعيا على الصعيد المجتمعي الحياتي بمعنى أن السرّ فيه يكمن في “الخلطة”، التي تتكون مما هو موجود (الذي يختلف عن الإبداع المتعلق باختراع أجهزة وآلات ترتبط عادة بعالم السيطرة والاستهلاك والفوز والربح). الإبداع الذي عشته يوم الجمعة جمع بين عدد من المؤسسات والأشخاص شملت: مؤسسة قطان والقائمون عليها؛ مشروع وليد وهيلين القطان لتطوير البحث والتعليم في العلوم في فلسطين والقائمون عليه (وهو ضمن برنامج البحث والتطوير التربوي)؛ أهالي “بتير” بجمال طبيعتها وأهاليها؛ الطلبة والمعلمون كشركاء فعليين؛ المتطوعون من الشبان والشابات؛ وبيان الفنان “عايش” الحي. وبالطبع منبع المشروع: عشق “ففيان” لكل ما يحمي القدرة العضوية لتوليد الذات والحياة. أما اللقاء الثاني فكان عبر جهد مشترك بين مركز السكاكيني والملتقى التربوي العربي.

حملَتْ الحلقة السادسة من هذه الزاوية من جريدة “الحياة الجديدة” عنوان “نروي نباتات ونروي حكايات”، التي– أي الحلقة– حوت اقتراحا حول التعلّم في المرحلة الابتدائية يتوافق مع الحكمة والعافية والمسؤولية. ذكرتُ في تلك الحلقة أننا نتغذى من تربتين أساسيتين: التربة الأرضية والتربة الثقافية. الأولى مهمة لنمو بذور ونباتات، والثانية مهمة لنمو كلمات وحكايات. من هنا، يلتقي ما أعمله على صعيد الفكر والفهم مع مشروع المكتبة على صعيد الأكل والهضم (كما يلتقي العملان مع أعمال أخرى كثيرة تشكّل معا الأمل الحقيقي لنا). دورنا في الحالتين أن نروي نباتات ونروي حكايات. والتربتان بطبيعة الحال مرتبطتان بالتربة الاقتصادية، كما أنهما مرتبطتان بمفهوم للتعلم والمعرفة يتوافق مع القيمة النفعية في الحياة (بمعنى التوافق مع عافية الإنسان والمجتمع والطبيعة) وليس مع القيمة التبادلية المرتبطة بعالم الاستهلاك.

أود أن أختم باقتراحين صغيرين بسيطين في هذا المضمار: أولا، لنتجنب كلمات مثل تنمية وتقدُّم ونستعيد كلمات مثل عافية وحكمة كبوصلة لنا نسير وفقها؛ أي، لنتجنب، حيث أمكن، استعمال كلمات لا تنبع معانيها من تجربة وفِعْل وسياق وتأمل واجتهاد. وآمل، ثانيا، أن تستيقظ إحدى الجامعات الفلسطينية وتنتزع ذاتها من الاحتذاء بحذاء الغير وتقدم مسارا للراغبين من الطلبة للتعرف على منجمٍ من الحكمة، متمثلا بابن عربي، سواء في دائرة اللغة العربية أو دراسات ثقافية. كما آمل أن تتجرأ جامعة وتفتح “بيت حكمة” فيها ككلية صغيرة لعشرة طلبة يرغبون السير وفق طريق الحكمة خلال الأربع سنوات التي يقضونها في الجامعة، كتجربة في استعادة الحكمة التي لا أمل للبشرية بدونها.

الاخبار العاجلة