فلسفة الكم 1: النظرة العدمية للواقع، كل شيء منهار

9 أغسطس 2021آخر تحديث :
فلسفة الكم 1: النظرة العدمية للواقع، كل شيء منهار

تخيل أنك تقرأ مجلة نهاية الأسبوع وتبحث في صفحات الألغاز عن لعبة سودوكو Sudoku. تقضي صباحك محاولًا حل هذا اللغز المنطقي، فقط لكي تدرك في المربعات الأخيرة المتبقية أنه لا توجد طريقة ثابتة لحلها.

تقول في نفسك «لا بد أنني ارتكبت خطأً». لذا تحاول مرةً أخرى، هذه المرة بدءًا من الزاوية التي لم تستطع حلها. لكن يتكرر الشيء نفسه. تصل إلى المربعات الأخيرة المتبقية لحل اللغز وتجد أنه لا يوجد حل نهائي لها.

إن العمل على الطبيعة الأساسية للواقع وفقًا لميكانيكا الكم يشبه إلى حدٍ ما لعبة سودوكو المستحيلة. لا يهم من أين نبدأ بنظرية الكم، فدائمًا ما ينتهي بنا المطاف في معضلةٍ تجبرنا على إعادة التفكير في الطريقة التي يعمل بها العالم بشكلٍ أساسي. وهذا ما يجعل ميكانيكا الكم ممتعة للغاية.

دعنا نأخذك في جولةٍ قصيرة بعينٍ فلسفية، حول العالم وفقًا لميكانيكا الكم.

1. التأثير الشبحي عن بعد
فمثل ما نعرف فإن سرعة الضوء «قرابة 300 مليون متر في الثانية» هي السرعة القصوى للكون. اشتهر ألبرت أينشتاين Albert Einstein بالسخرية من احتمال تآثر الأنظمة الفيزيائية مع بعضها البعض بشكلٍ أسرع مما يمكن أن تنتقل فيه إشارة ضوئية بينها.

أطلق أينشتاين في الأربعينيات من القرن الماضي على هذا التآثر بـ«التأثير الشبحي عن بعد». عندما بدت ميكانيكا الكم في وقتٍ سابقٍ أنها تتنبأ بمثل هذه التأثيرات الشبحية، مجادلًا بأن النظرية يجب تقف عن هكذا تكهنات، وأن بعض النظريات الأفضل ستروي القصة الحقيقية.

نحن نعلم اليوم أنه من غير المرجح وجود نظرية أفضل من ميكانيكا الكم. وإذا اعتقدنا أن العالم يتكون من أشياءَ محددةٍ ومستقلة، فعالمنا يجب أن يكون مكانًا يُسمح فيه بالتأثير الشبحي عن بعد بين أجزاء الواقع.

2. إنحلال سيطرنتا على الواقع
أظنك تسائلت: «ماذا لو لم يكن العالم مكون من أشياءٍ محددةٍ ومستقلة؟ فهل يمكننا تجنب التأثير الشبحي هذا؟».

نعم نستطيع، ومعظم مجتمع فيزياء الكم يفكر بهذه الطريقة أيضًا. ولكن لن هذا يكون عزاءًا لأينشتاين.

جادل أينشتاين طويلًا مع صديقه الفيزيائي الدنماركي نيلز بور Niels Bohr، عن هذا السؤال بالذات. جادل بور بأنه يجب علينا بالفعل التخلي عن فكرة أن الأشياء في العالم محددة ومستقلة، حتى نتمكن من تجنب التأثير الشبحي عن بعد. من وجهة نظر بور، ليس للعالم خصائص محددة إلا إذا نظرنا إليه. يعتقد بور أنه عندما لا ننظر، فإن العالم كما نعرفه ليس موجودًا تمامًا، كعدمية العالم برؤى أعشى.

اشتهر الفيزيائيان نيلز بور (إلى اليسار) وألبرت أينشتاين (على المين) باختلافهما حول ما تعنيه ميكانيكا الكم لطبيعة الواقع. بواسطة: بول إهرنفست
لكن أصر أينشتاين على وجوب تشكل العالم من شيءٍ ما سواءً نظرنا إليه أم لا، وإلا فإننا لا نستطيع التحدث مع بعضنا البعض عن العالم، وكذلك العلم. ولكن لم يكن بإمكان أينشتاين أن يمتلكَ عالمًا مستقلًا ومُحددًا ولا تأثيرًا شبحيًا عن بعد، أو كان بإمكانه ذلك؟

3. العودة إلى المستقبل
إن الجدل بين بور وأينشتاين هو حدثٌ معتاد في تاريخ ميكانيكا الكم. الأقل شيوعًا هو الزاوية الضبابية لهذا اللغز المنطقي الكمومي حيث يمكننا تخليص عالم محدد ومستقل دون وجود التأثير الشبحي. لكننا ومن الناحية الأخرى سنحتاج إلى أن نكون متكهنين بعض الشيء.

إذا كان إجراء تجربة لقياس نظام كمي في المختبر يمكن أن يؤثر بطريقةٍ ما على وضع النظام قبل القياس، فيمكن لأينشتاين الاحتفاظ بكعكته وتناولها في آنٍ واحد. يُطلق على هذه الفرضية اسم «العلية المَعكُوسَة أو السببيّة الارتجاعيّة Retrocausality»، لأن التأثيرات الناتجة عن إجراء التجربة يجب أن تسافر عبر الزمن إلى الماضي.

إذا كنت تعتقد أن هذا غريب، فأنت لست وحدك. هذه ليست وجهة نظر شائعة جدًا في مجتمع فيزياء الكم، لكن لها مؤيدين. إذا أُرغِمتَ على الاختيار بين التأثير الشبحي عن بعد، أو عدمية العالم برؤى أعشى (اللارصدية)، عندها لن تبدو السببيّة الارتجاعيّة خيارًا غريبًا بعد كل شيء.

4. لا يوجد منظور من على أوليمبوس
تخيل زيوس Zeus جالسًا على قمة جبل أوليمبوس، وهو يتفحص العالم. تخيل أنه كان قادرًا على رؤية كل ما حدث وسيحدث، في كل مكان وزمان. أطلق على هذا إسم «النظرة الإلهية God’s eye» للعالم. من الطبيعي أن نعتقد أنه لا بد من وجود طريقةٍ ما لمعرفة سلوك العالم، حتى وإن كان لا يمكن معرفته إلا من قبل النظرة الإلهية.

تشير الأبحاث الحديثة في ميكانيكا الكم إلى أن النظرة الإلهية للعالم مستحيلة، حتى من حيث المبدأ. في بعض السيناريوهات الكمّية الغريبة، يمكن لعلماء مختلفين النظر بعناية غلى الأنظمة الكمّية في مختبراتهم وإجراء مسح بياني شامل لما يرصدونه، ومع ذلك سيختلفون حول ما حدث عندما يأتون لمقارنة الملاحظات. وقد لا تكون هناك حقيقة مطلقة للمسألة حول من هو الصحيح، ولا يستطيع حتى زيوس معرفة ذلك!

لذا في المرة القادمة التي تلعب فيها لعبة سودوكو المستحيلة، كن مطمئنًا أنك مع صحبة رائعة. يعرف مجتمع فيزياء الكم بأكمله، وربما حتى زيوس نفسه، ما تشعر به بالضبط.

الاخبار العاجلة