هندسة الصوت البشري.. بين الموهبة والمران وارتباطها الوثيق بالمقامات الموسيقية

7 مارس 2022آخر تحديث :
هندسة الصوت البشري.. بين الموهبة والمران وارتباطها الوثيق بالمقامات الموسيقية

يتمتع جسم الإنسان بمرونة هائلة تمنح أي جزء فيه قدرا وافيا من الحرية والقدرة على البرمجة الذاتية لأداء وظائف خاصة تستند إلى تكليفات ذكية من الدماغ.

ومن الناحية الشاعرية، لم يغفل مفكرون وأدباء تلك المرونة، ما يذكرنا ببيت بشار بن برد الذائع الصيت: ”يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة/ والأذن تعشق قبل العين أحيانا“.

والبشر بفطرتهم يميلون إلى الصوت الحَسَن، أيا كان مصدره، طبيعيا أو اصطناعيا أو بشريا.

وتشير الدراسات المتخصصة بنشأة الموسيقى إلى أن الإنسان منذ القدم امتلك آليات تذوق فني لجماليات الصوت، مع قدرة متقدمة على تصنيفه.

وللصوت دور رئيس في إيصال المعنى، وحمل الرسالة، ورسم الصورة الذهنية المراد إيضاحها والإضاءة عليها.

وبجمال منقطع النظير، تتقاطع في الدماغ آليات الإحساس، وتتماهى الحواس، ليرسم المتحدث بصوته خطوطا ويشكل ألوانا تقدم للمستمع تنويعا متناغما تحيط به هالة وسيمة من النغمات والطبقات الصوتية، ما يساعد المتلقي على التعايش مع الصوت والمهارة الإيقاعية الأدائية.

فيزيولوجيا الصوت

وعن تكوين الصوت البشري، فالعملية تبدأ بشهيق وزفير عبر القصبة الهوائية وصولا إلى الحبال الصوتية، التي تتذبذب لتصدر أصواتا بترددات وطبقات مختلفة.

ليصعد الصوت إلى الأعلى ويمر عبر التجويف الأنفي الذي يمنحه تضخيما معينا وصدى فريدا يجعله مميزا من شخص لآخر، ويشكل مقاطع صوتية نسميها حروفا مسموعة من خلال مرور الصوت عبر اللسان والأسنان.

كاريزما الصوت

ترتبط عادة كلمة كاريزما بالجسد فقط، ولكن هل ثمة كاريزما خاصة بالصوت أيضا؟ عن جماليات الصوت وآليته. كان لـ“إرم نيوز“ لقاء مع الدكتور محمد عصام محو، الباحث السوري في الصوتيات ومستشار رئيس اتحاد المبدعين العرب في الأمم المتحدة.

وقال محو: ”في الصوت ما يعكس شخصية الإنسان فيظهر تفرده، فهو إما متكبر أو متواضع، خلوق أو غضوب، وغيرها من الصفات البشرية الطبيعية“.

وأضاف: ”تظهر كاريزما الصوت من خلال ما يغلب على الإنسان في أدائه الصوتي، أو ما اتسم به الصوت؛ فهو موروث من والديه أو اكتسبه الشخص فجعله طبعا“.

وأوضح محو: ”يظهر بعضهم بصوت هادئ، وتغلب على آخرين طبقة مرتفعة، وصولا إلى أشياء أكثر تفصيلا ودقة؛ مثل النغمة وأسلوب النطق، فقد يوحي صوت أحدهم بالحزن أو الفرح أو الإحساس بالمفاجأة والتعجب، وصولا إلى صوت يوحي بشخصية عاطفية، وغيرها من التنويعات“.

من جانبه؛ قال مهندس الصوتيات السوري وائل حبال، الناطق العربي الرسمي لخرائط غوغل، إن ”كاريزما الصوت جزء أساسي من شخصية الإنسان، فالشكل ضرورة، ولكن الشخصية الصوتية تتجاوز 70% من الشخصية العامة للإنسان“.

ورأى حبال أنه لا وجود لصوت بشري غير قادر على الأداء، بل ثمة صوت يجب توجيهه ووضعه في المسار الصحيح للاستفادة قدر المستطاع من قدراته الكامنة.

المران

وأضاف حبال المتخصص بالتعليق الصوتي في قنوات عربية منذ العام 2003: ”لا بد أن الخامة والطبقة ضروريان، لكن الموهبة أو الفطرة تحتاجان إلى مران مستمر لتحسين الصوت وتعزيز نقاط قوته، وتكمن الموهبة الحقيقية بشغفك لإتقان الطبقة الصحيحة“.

وأوضح حبال، في حديث لـ“إرم نيوز“: ”الصوت الجميل لا يقتصر على الفطرة، فهو يحتاج إلى الشغف والإصرار على المتابعة؛ أقول دائما للمتدربين: لا يوجد صوت بشري غير جميل، ولكن يوجد صوت غير مدرب، أو صوت غير مناسب للطبقات المطلوبة“.

وتابع: ”كما ينتقي أحدنا ملابس تناسب مقاس جسده، يجب عليه خلال الحديث التعرف على المسار الذي يناسب صوته والطبقات والإيقاع، فبعضنا تناسبه الطبقة العالية، والآخر إذا ارتفع صوته أغلقنا آذاننا لأننا لن نستطيع سماعه، وبعضنا تناسبه الطبقة المنخفضة مع ضرورة ألا يبقى منخفضا دائما، وهكذا“.

ألحان الكلام

تُعرَف الألحان في اللغة المنطوقة بأنها امتداد الكلام، مع غياب الانضباط والتقيد بمخارج للحروف، ولكن ذلك لا ينطبق على الصوت الإذاعي.

ومعظم القنوات والإذاعات العربية الكبرى، تمتلك مختبرات صوت احترافية، يخضع المذيع فيها لتجربة تقييم أداء، وتقريبا لا يخرج منها صوت إلى الأثير دون انتزاعه للدرجة الكاملة.

طبقات الصوت

ويؤدي غياب التغييرات في طبقة الصوت؛ إلى جمل رتيبة على وتيرة واحدة، إذ إن التلاعب بين الطبقات إحدى أهم الأدوات الرئيسة لإيصال المعنى بشكل سلس ومقبول ودقيق. وقد يتسبب اختلاف نبرة الكلمة وحجمها وطبقتها في اختلاف معاني الجمل.

وهناك تمارين عدة تسبق مرحلة البدء بالتسجيل الصوتي؛ مثل تدريب عضلة اللسان، وفتح مخارج الحروف، وتدريب الحبال الصوتية، وطريقة التنفس الصحيحة، حتى لا ينقطع النفس أثناء التسجيل ويظهر الارتباك والتشتت واضحا أو أن ينقطع النفس في منتصف الجملة، فضلا عن ضرورة الوقفات ومعدل السرعة في الوقت المناسب.

الخامة

وذكر الدكتور محمد عصام محو أن ”خامة الصوت تمثل فطرة أو هبة إلهية، فهناك صوت خشن وآخر حاد، ولكن نحن من نستخدم الطبقة الصحيحة التي تناسب هذه الخامة، فالصوت الخشن تناسبه الطبقات المنخفضة، لأنها إذا ارتفعت قد تتحول إلى ما يسمى بالشخير، والصوت الحاد إذا ارتفع يصل أحيانا إلى الصفير، وهذا ما يجب تجنبه“.

من جانبه، ركز مهندس الصوتيات وائل حبال على أن ”الصحة مهمة جدا، وسلامة الجيوب الأنفية من الانحراف والانسداد تلعب دورا رئيسا في صحة الأداء الصوتي، ويجب التنفس بالطريقة البطنية الصحيحة والابتعاد عن التدخين وعن أي شيء يضر الرئتين“.

مراحل التدريب

وقال حبال: ”أول مرحلة من مراحل التدريب تبدأ بمعرفة الخامة الصوتية، وتحديد نوعها، تليها المرحلة الثانية بتحديد طبقة تناسب الخامة، ثم تأتي المرحلة المتقدمة وهي مرحلة الأداء الصوتي، ليجيد المتدرب ما يناسب نغمات مهنته وطريقة الأداء المناسبة لها“.

وأوضح: ”يتعلم المتدرب على سبيل المثال، أساليب خطبة الجمعة، أو نغمة الإعلامي الذي يتلو نشرة الأخبار، ولكل نشرة منها أداء مختلف؛ كالرياضية والجوية والسياسية، ويختلف الأسلوب إن كان في النشرة تلاوة لنبأ وفاة، فحينها ستكون الطبقة منخفضة وفيها شيء من الحسرة والحزن، بحسب قيمة الفقيد“.

وعن أساليب التدريب؛ قال الباحث محمد عصام محو: ”يطور الصوت مجموعة أشياء؛ خامة، وطبقة، وضغطا على الكلمات، ومدات للحروف، وأداء يحتاج تدريبا كبيرا على أيادي متخصصين“.

وأضاف: ”يجب أن نعطي كل شيء حقه من الأداء الذي يحتاج أعواما من الخبرة، فضلا عن ضرورة التركيز على مخارج الحروف وصفاتها، وهذه نأخذها من مجوِّدي اللغة ومتخصصيها، فنتعلم فن الأداء وكيف نلقي لغة صحيحة سواء كان الحديث باللغة العربية الفصحى أو العامية أو بلغات أخرى“.

مهارة الإقناع

ويأتي على رأس قائمة مهارات المعلق الصوتي، أن يملك القدرة على الإقناع من خلال صوته، لأنه لا يلتقي مباشرة بالجمهور وجها لوجه، وإنما يعتمد على صوته ليقنع المستمع بما يُقال، ولو كان نصا تسويقيا أو خبرا أو إعلانا أو فيلما وثائقيا.

ويكمن التحدي في الاكتفاء بالصوت كوسيلة تأثير دون الظهور شخصيا، ليقدم مهاراته بالمحتوى والتقديم والإلقاء دون أن يراه الجمهور، لذا على المتحدث أن يتحلى بقدرة عالية على التعبير وإيصال المشاعر المختلفة من خلال نبرة الصوت.

ووصف وائل حبال الصوت بأنه ”مرآة حقيقية للروح ويستطيع التأثير بالآخرين مباشرة حين نكون صادقين باستخدامه، فمدى التأثير يكون أعمق وأكثر انتشارا بناء على صدق الكلام والطرح. والجدية والحزم ضروريان في بعض المواطن“.

ارتباط الموسيقى بالصوت

والموسيقى تخاطب الروح مباشرة وتؤثر في الشخص دون أي قرار سابق منه، إذ إنها الوسيلة الأسرع وصولا إلى اللاوعي البشري، فضلا عن زيادة استيعاب الدماغ للكلمات الملحنة أكثر من الجامدة والفاقدة للنغمة، إذ ينخفض استيعاب العقل للكلمات غير الملحنة.

وأشار محمد عصام محو، الذي أطلق مادة تدريبية بعنوان ”تدريب الإلقاء عبر المقامات الموسيقية“، إلى أن ”كل ما يقوله الإنسان يمر عبر مقام موسيقي محدد، وعندما حللت أصوات الناس وجدت صلة وثيقة بالمقامات الموسيقية، فالمقام ليس للمغنين والمنشدين والمؤذنين فقط“.

وقال محو: ”كل شخص يتحدث بمقام، والإحساس يختلف وفقا للأداء، وثمة أشخاص يتحدثون بمقام واحد دون أن يتعلموا لعبة الأصوات ولغة التعبير الصحيحة التي تجعلهم قادرين على تلوين أصواتهم ليتحدثوا بمقامات مختلفة“.

مهارات الصوت

ويرى الباحث المصري محمد الطوبجي، أن ”الصوت في حال لم يتم تنغيمه، فإنه يشبه المادة الخام للنغمة الموسيقية الثابتة على وتيرة واحدة“.

ويقول الطوبجي في كتابه ”مهارات مقدم البرامج؛ الكاريزما، الصوت، الجسد“: ”إن كانت النغمة الموسيقية لا تعبر عن نفسها إلا من خلال آلة موسيقية، فالإنسان لا يعبر عن نفسه إلا من خلال صوته“.

ويضيف: ”الصوت البشري أكثر الأصوات إبداعا، لأنه يستطيع أن يرتبه كيفما يشاء وحسبما يريد، وإن كانت الموسيقى تعمل على التوازن الوجداني فالصوت البشري يصنع ذلك أيضا“.

الاخبار العاجلة