أنت من قال لنا

9 أغسطس 2017آخر تحديث :
أنت من قال لنا

كلمة الحياة الجديدة

في الذكرى التاسعة لرحيل شاعر فلسطين الأكبر محمود درويش اسمحوا لي أن أروي لكم ما قاله الزعيم الخالد ياسر عرفات، عن درويش، إثر واقعة التباس نقدية، حدثت في سهرة حوار ثقافي وأدبي وسياسي في ليلة بغدادية، بعد سنة تقريبا من انتهاء الحرب العراقية الايرانية، كنت في هذه السهرة التي ضمت شعراء وكتاب أدب وسياسيين ودبلوماسيين فلسطينيين، وكانت ثمة سيدة بيننا لها ما لها في حقول الادب والنقد، في هذه السهرة هاجمت هذه السيدة، محمود درويش على نحو نقدي وبشكل انفعالي، بشأن مجموعته “ورد أقل” امتعض الحاضرون جميعا وردوا الهجوم عليها، فيما ظل درويش وحده صامتا، ولم يطل في ذلك حتى غادر السهرة بعد أن ألقى بضع عبارات ساخرة للمضيف، الذي حاول عبثا ان يبقيه، ولكن الشاعر كان قد وصل باب المغادرة، ولحقت به كي أوصله الى الفندق الذي ينزل فيه.

كان ياسر عرفات في ذلك الوقت في بغداد، وكنت أذهب صباحا كلما كان هنا الى مقر اقامته، ما أن شاهدني حتى استدعاني وقال لي “ماذا حدث مع محمود درويش يوم أمس يا محمود”. ذهلت أن الواقعة كانت على طاولة الزعيم بعد اقل من أربع وعشرين ساعة، وأنا الذي اعتبرتها واقعة عابرة لا تستحق الرواية، قلت ما شهدت وسمعت، فأمرني ابو عمار ان اذهب لأحضر هذه السيدة، فعلت وكانت بعد اقل من نصف ساعة في مكتبه جلست بعد حسن استقبال من الزعيم الخالد، وجلست معها فقال لها أبو عمار التالي “يا سيدتي مثلما أنا الرمز الوطني لفلسطين، محمود درويش هو الرمز الثقافي، مقامه من مقامي، ومقامي من مقامه، فلا يجوز التطاول عليه وربما أنا أتحمل تطاولا وأقبل به، ولكن لن أقبل تطاولا على الرمز الثقافي”. احببت أن اروي لكم هذه الواقعة، لكي اشير الى ان فكر الوطنية الفلسطينية وثقافتها على هذا القدر من التقدير للأدب، وادراك اهميته المعرفية والثقافية القادرة دوما على ترسيخ الهوية الحضارية والوطنية، والاهم فإن هذا الفكر وهذه الثقافة على قدر كبير من الفهم العميق لضرورات الرمزية، في دروب النضال والبناء معا، للرئيس أبو مازن مساهمة مماثلة ولافتة في هذا الإطار، وكان ينصت لدرويش أكثر مما ينصت لأي سياسي مهما بلغ شأنه، وفي هذا الفكر، وهذه الثقافة الحضارية تماما، على الرمزية ألا تكون وطنية نضالية فقط، وإنما ثقافية أيضا وبذات الدرجة التي تحتلها الرمزية الوطنية والنضالية.

ومحمود درويش قد احتل هذه المكانة الرمزية، لا لأنه شاعر فلسطين الاكبر وأحد اهم شعراء العربية بعد المتنبي فحسب، بل لأنه الايقونة التي تكثفت فيها على نحو ابداعي، السيرة الملحمية لفلسطين وقضيتها، وقد كتبت تطلعاتها بجماليات القصيدة التي حملها درويش على التطور والحداثة بهويتها العربية وخصوصيتها الفلسطينية.

تسع سنوات مضت اذن على رحيل الشاعر، دون ان ترحل هذه المكانة الرمزية ولن ترحل، ليس لأن قصيدته ما زالت هي الأغنية الفلسطينية الأجمل والاجدى والاكثر حضورا فقط، وانما لأن فكر الوطنية الفلسطينية وثقافتها يواصلان تكريس هذه القيم والمفاهيم الانسانية والحضارية المتفتحة، في تاريخ النضال الوطني والانساني الفلسطيني .

على أن الرثاء يظل ضرورة لهدهدة القلب، تسع سنوات ونص الغياب ينوح على مقام البيات، حتى تعلق الشجن مريدا على جدران القلب، فيما نص القصيدة تائه في دروب الحسرة .

درويش مثلما قلت لماجد أبو شرار: صباح الخير يا ماجد ، قم اقرأ سورة العائد نقول لك في هذه الصبيحة والقدس قد قالت قولتها العظيمة: صباح الخير يا محمود قم اقرأ سورة الصمود، وأنت من قال لنا ما قلت لنا، وما زلت تقول.

الاخبار العاجلة