تعاظم دور الجماعات السلفية الجهادية في ظل ثورات الربيع العربي: الجماعات السلفية أغصان لنفس الجذر

17 يوليو 2016آخر تحديث :
تعاظم دور الجماعات السلفية الجهادية في ظل ثورات الربيع العربي: الجماعات السلفية أغصان لنفس الجذر

 

قراءة: عزيز العصا

مقدمة:

أنور رجب محمود خليل؛ باحث فلسطيني، متخصص في الاقتصاد والعلوم السياسية. أنجز في الآونة الأخيرة، وبالتحديد في العام 2016، رسالة ماجستير، بعنوان: “تعاظم دور الجماعات السلفية الجهادية في ظل ثورات الربيع العربي”، ضمن برنامج الدّراسات العربية/معهد الدراسات الإقليمية/جامعة القدس، أشرف عليها د. أحمد أبو دية. تتكون الرسالة من المباحث والفصول التقليدية التي تتألف منها رسائل الماجستير عادة. وما يعنينا في هذا البحث الحركات الإسلامية بشكل عام، والتي تضم في تصنيفاتها “الجماعات السلفية الجهادية”، التي خاض الباحث “أنور خليل” في نشأتها ومراحل تطورها، ثم تتبع أماكن تمركزها وإعادة انتشارها وتوسعها وتمكينها، إلى أن توزعت على ثلاثة نماذج، هي: جماعة الجهاد المصرية، وتنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ثم انطلق منقبًا عن أوجه التشابه والاختلاف بين الجماعات الجهادية، متخذًا من العلاقة بين القاعدة والدولة الإسلامية أنموذجا لتلك الأوجه.

في الفصل الرابع والأخير، يناقش الباحث العلاقة بين الجماعات الجهادية وما أسماه “الربيع العربي”، مبينًا دور تلك الجماعات في ثورات الربيع العربي ومواقفها منها، وأوضاعها في الدول التي تعاني من تلك الثورات. ولم يغفل الباحث عن التطرق إلى “دور التناقضات والتجاذبات والتحالفات الدولية والإقليمية “ضد الإرهاب” في تعاظم دور الجماعات الجهادية. ويختتم “أنور خليل” بحثه هذا بـ “قراءة استشرافية حول مستقبل الجماعات الجهادية”، لينتهي بالخاتمة والاستنتاجات التي خرج بها في بحثه هذا.

سوف نغوص، فيما يأتي، بين ثنايا هذا البحث القيّم وتفاصيله، لكي نوفر للقارئ الكريم، ما سنلتقطه من لآلئ فكرية ومعرفية تجعله يتمكن من الإجابة على بعض الأسئلة الحائرة-المحيّرة التي عرّج عليها الباحث “أنور خليل”، وبذل جهودًا مضنية وجادة وهو “يجتهد” للإجابة عليها؛ فإن أصاب (وأصبنا معه) فلنا أجران، وإن أخطأ (وأخطأنا معه) فلنا أجر؛ لأننا لا نسعى نحن جميعًا، إلا إلى نجاة مركبنا ومركب الأجيال القادمة من الغرق في بحور الاختلافات الهادرة، التي لم تعد ملامحها تخفى على أحد، والتي تلقى الرعاية وصب الزيت الامبريالي-الاستعماري ورأس حربته “إسرائيل” على نيرانها المستعرة، بشكل متواصل منذ بضع سنوات.

أولًا: الثورة بين المفهوم العالمي والإسلامي:

تناول الباحث مفهوم الثورة المرتبط بالتغيير السياسي الذي يحدث أثراً في بنية نظام الحكم ومرجعياته، ويؤدي إلى إحداث تغيير على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي. والثورة، تبعا لطبيعتها، إما سلمية أو مسلحة، وهي بحسب القائمين عليها، إما شعبية أو أيديولوجية أو حزبية.

وفي هذا السياق، نجد أن الباحث يخصص مساحة من بحثه لمفهوم الثورة من وجهة النظر الإسلامية؛ فيستعرض رأيين لعلماء المسلمين، هما: الرأي الأول: يرى أصحابه أنه لا يجوز الخروج على الحاكم ولو كان جائراً، إلا في حال ظهر منه كفراً بواحاً لا يقبل التأويل. والرأي الثاني: ويرى أصحابه أنه يجب الخروج على الحاكم الجائر، ويمثل هذا الرأي في التاريخ المعاصر العديد من المفكرين الإسلاميين، وأهمهم على هذا الصعيد سيد قطب، ورموز التيار السلفي الجهادي. وعندما هبت ثورات الربيع العربي أصدرت لجنة من علماء الأزهر في فبراير 2011 فتوى تجيز الخروج على الحاكم، بعد اتخاذ الجيش المصري موقفاً مؤيداً للثورة، مما يعني القدرة على تغيير الحاكم وفي نفس الوقت ضمان الاستقرار[1].

ثانيًا: السلفية: المفهوم.. التطور التاريخي.. والتصنيف

يشير الباحث إلى غموض مصطلح السلفية، إلا أنه يورد تعريف الإمام الشيخ محمد عبده، بأنها”فهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى”، ومع التطور التاريخي للاتجاهات السلفية، تشكلت “سلفيات” متعددة، تختلف فيما تتبناه من قضايا وأولويات، وتتباين في درجة التسلف، وفي المقاصد والوسائل. ويكاد يحتكر هذا المصطلح أولئك الذين غلّبوا النص الديني على الرأي والقياس والتأويل، وغيرها من آليات وأدوات النظر العقلي في قراءة وفهم النص الديني.

ويرى الباحث أن الجذور الفكرية للجماعات السلفية الجهادية المعاصرة، في تطبيقاتها العملية، تعود لثلاثة مرجعيات رئيسية، ظهرت ونمت في بيئات فقهية مختلفة، وأنتجت مفاهيم شكلت الأساس في تبلور الفكر الجهادي، وتمثلت هذه البيئات بما يأتي:

– البيئة الأولى: السلفية المدرسية الوهابية التي تحولت إلى سلطة في الجزيرة العربية، والتي ولدت فيها عقيدة الولاء والبراء.

– البيئة الثانية: التي ظهر فيها أبو الأعلى المودودي في الهند، وأنتجت مفهومي الجاهلية الجديدة والحاكمية الإلهية.

– البيئة الثالثة: التي ظهر فيها سيد قطب، وأعاد إنتاج مفاهيم المودودي ووظفها كسلاح معرفي وعقائدي في مواجهة النظام الحاكم في مصر آنذاك.

ومن هنا، نجد أن بعض المفكرين يعتبرون أن سيد قطب هو المؤسس الحقيقي للجماعات السلفية الجهادية المعاصرة؛ حيث يرون أن أفكاره قد شكلت قطيعة معرفية حقيقية مع الفكر الإصلاحي الإسلامي، وينظر لكتابه “معالم في الطريق” بمثابة الدستور الذي تعتمد عليه هذه الجماعات في مجمل أطروحاتها، فضلا عن الطبيعة الصدامية وطنيا ودوليا، التي أسس لها قطب من خلال إعادة إنتاج مفهومي الجاهلية والحاكمية.

وصنّف الباحث الحركات الإسلامية، كحركات سلفية وفق ثلاث مراتب، مستمدة من أقوال العديد من الفقهاء عبر العصور المختلفة للحضارة الإسلامية، كما يظهر في الجدول التالي:

33

ثالثًا: القضية الفلسطينية في فكر الجماعات الجهادية:

يرى الباحث أن مفهوم أولوية قتال العدو القريب منح مبرراً للجماعات الجهادية لتأجيل الجهاد من أجل تحرير فلسطين، وبالتالي الاستنكاف عن مواجهة إسرائيل، منطلقين من فكرة أن القضاء على أنظمة الحكم الكافرة الموالية للغرب وإسرائيل هو الطريق لتحرير فلسطين والأراضي المقدسة.

من هنا، فان الفعل الجهادي، وعلى مدى تاريخ الجماعات الجهادية، لم يشهد أي تطبيق ميداني على أرض الواقع اتجاه إسرائيل. ومنهم من يرى بأن النصر لو تحقق سيكون لصالح الحاكم الكافر وتثبيت لأركان الدولة الخارجة عن شرع الله، وأن “الأولوية هي لإسترجاع حكم الخلافة الإسلامية الذي يوحد بين المسلمين. وعندما ترد فلسطين في الخطاب الجهادي، فإن ذلك يأتي في إطار عملية التحشيد الجهادي، واستثمار القضية الفلسطينية لكسب تعاطف وتأييد الشعوب العربية والإسلامية، واستقطاب مزيد من المقاتلين والمناصرين!

رابعًا: التيار السلفي المعاصر: النشأة والتطور وصولًا إلى “اللاعبون من غير الدول”

يرى الباحث أن التيار السلفي الجهادي، الذي تشكل وفق المنهجيات والاستراتيجيات المذكورة أعلاه، قد مرّ بمراحل مختلفة من التطور منذ النشأة حتى تبلور بشكله الحالي المتشظي الى مجموعات متعددة في عدة مناطق مختلفة من العالم، حتى بات واحدًا من المجموعات التي ينطبق عليها وصف ما بات يعرف في علم العلاقات الدولية بـ”اللاعبون من غير الدول” (Non- State Actors)، حيث أن أعضاء هذا التيار متعددو الجنسية، وأهدافه وفعله الجهادي بات عابرا للحدود، وله دور مؤثر وبارز في ضمان الاستقرار من عدمه. وتتلخص هذه المراحل بما يأتي:

المرحلة الأولى: النشأة والتأسيس: حيث وكانت فترة ستينيات القرن العشرين قد شهدت حالة من الصدام بين الجماعات الإسلامية، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، والنظام الحاكم في مصر وعلى أثرها وفي عام 1966 تم إعدام سيد قطب. ثم شهدت العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين انتشاراً واسعاً لتيار السلفية الجهادية، بدأ في مصر عن طريق مجموعة من المفكرين الذين أسسوا لهذا الفكر، مثل: سيد قطب (وكتابه معالم في الطريق)، ومحمد عبد السلام فرج أمير جماعة الجهاد، وعمر عبد الرحمن أمير الجماعة الإسلامية، واعتبرت هذه الحركات الأساس لجميع الحركات التي انتشرت لاحقاً في العديد من بلدان العالم العربي والإسلامي.

المرحلة الثانية: التمركز: حيث دشنت الحرب في أفغانستان نهاية السبعينيات مرحلة جديدة في تاريخ الجماعات الجهادية، حيث وفرت تلك الحرب ملاذاً آمناً ومناخاً أيدلوجياً لنشوء تيارات جهادية متعددة التوجهات والاجتهادات، فكانت ظاهرة الأفغان العرب[2]؛ مصطلح أطلق على الشباب العربي الذين شاركوا في القتال ضد السوفيت في أفغانستان والتحقوا بالجماعات الجهادية. وعند نهاية الحرب في أفغانستان في العام 1989، تعددت الوجهات التي اختارها المجاهدين العرب: فمنهم من بقي في أفغانستان مستقلاً داعماً لأحد طرفي الحرب الأهلية، ومنهم من ذهب للإقامة في السودان واليمن وكانتا لا تلزمان العرب بتأشيرة دخول، ومنهم من ذهب للجهاد في البوسنة والشيشان والصومال وطاجيكستان، ومنهم من عاد الى بلاده ساعياً الى نقل التجربة إليها مثل مصر والجزائر وليبيا. ومنهم من خاض تجربة تشكيل جماعة جهادية مثل أبو مصعب الزرقاوي وأبو محمد المقدسي في الأردن عام 1994 فيما عرف بقضية بيعة الإمام.

المرحلة الثالثة: إعادة الإنتشار وعولمة الجهاد

 لقي دخول الولايات المتحدة الأمريكية الى المنطقة العربية تحت مبرر إخراج العراق من الكويت، في العام 1990، استنكاراً شعبياً واسعاً وغضباً شديداً في أوساط العديد من الرموز الدينية خاصة في السعودية. وكان أسامة بن لادن واحد من أولئك الذين عارضوا موقف العائلة الحاكمة التي استعانت بالقوات الأمريكية ومنحتها مقراً للإقامة على الأراضي السعودية. وهذا التحول في فكر ورؤية بن لادن هو ما أسس لاحقاً لنشأة تنظيم القاعدة، ولشبكتها في السعودية والخليج عموماً، وكان له أثر بالغ على التيار السلفي الجهادي فكرياً وعملياتياً فيما بعد، خاصة فيما يتعلق بقضية عولمة الجهاد.

وشهدت حقبة التسعينيات من القرن العشرين انتشار هذا التيار، في السودان واليمن ومصر والجزائر وليبيا. وعندما لم يحتمل السودان الضغوط التي تعرض لها من المجتمع الدولي بعد اتهامه بدعم الإرهاب، غادر جموع الجهاديين السودان، منهم بن لادن والظواهري في مايو 1996 ليستقر مقامهم في أفغانستان مرة أخرى، فشكلت لهم الملاذ الآمن مرة أخرى في عهد طالبان، وبدأت في استقبال المقاتلين العرب فرادى وجماعات من كافة الجنسيات، وكان في مقدمتهم أسامة بن لادن ومجموعة من عناصر تنظيم القاعدة.

مرحلة ما بعد هجمات 11 سبتمبر: أقيم ما أطلق عليه “التحالف الدولي ضد الإرهاب”، فكان له تداعيات موجعة على الجماعات الجهادية؛ حيث تم تنفيذ مجزرة حقيقية للتيار الجهادي، وهي الأسوأ في تاريخه. حيث تم الإطاحة بنظام طالبان، وفقدت القاعدة والجماعات الأخرى ملاذها الآمن في أفغانستان، وخسرت 75% من قاعدتها البشرية من الأفغان العرب الذين تواجدوا في أفغانستان تلك الفترة ما بين قتيل وأسير، كما أدت حملات المطاردة والاعتقال التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية، وأجهزة الآمن المتعاونة معها في أوروبا وبلدان العالم العربي والإسلامي الى اعتقال وأسْر الآلاف من الجهاديين والمتعاطفين معهم.

ثم تم احتلال العراق الذي أشعل غضب ملايين العرب والمسلمين، وأعاد إنتاج الخطاب الإعلامي للتيار الجهادي ضد الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها قوة استعمارية تسعى للسيطرة على المنطقة العربية وثرواتها. فافرز هذا الاحتلال جماعات مقاومة تتبنى إستراتيجية القاعدة وتسير وفق منهجها، وكان أهمها على الإطلاق جماعة التوحيد والجهاد بزعامة أبو مصعب الزرقاوي.

المرحلة الرابعة: التوسع والتمكين

أبرز ملامح هذه المرحلة هو اتساع نطاق الانتشار الجغرافي لهذه الجماعات وتعدد ملاذاتها الآمنة، وتضاعف أعدادها وتعدد مسمياتها وتكويناتها، وتعاظم قدراتها في المنطقة العربية، سواء من خلال التواجد على الأرض، كما هو الحال في سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مساحات واسعة من أراضي سوريا والعراق، أو من خلال إدارة نشاطها عبر خلاياها السرية في دول أخرى. ووفقا لمعطيات مؤشر الإرهاب الدولي عام 2014، فان الزيادة في عدد التنظيمات الجهادية من أواخر عام 2010 وحتى 2014 بلغت نسبتها 58%. ويعتبر تنظيم الدولة الإسلامية عنوان هذه المرحلة، من خلال الملامح التالية: تحقيق السيادة الكاملة على الأرض، وتراجع نفوذ تنظيم القاعدة التي أصبحت على خلاف تام مع تنظيم الدولة. كما أصبح تنامي تنظيم الدولة يمثل تهديدًا للأمن على المستويين الإقليمي والدولي، فانه دفع الإدارة الأمريكية إلى تشكيل تحالف دولي- إقليمي لمحاربة “داعش” في العراق وسوريا، والعمل على تنسيق الجهود لمواجهة تمدد وتوسع نشاطاته ودائرة فعله.

خامسًا: أسباب تعاظم الجماعات الجهادية؟

ان الأوضاع التي سادت المرحلة الانتقالية في بلدان الربيع العربي، ساهمت في إيجاد تربة خصبة تناسب وتلائم طبيعة الجماعات الجهادية. وبعد أن كانت الجماعات الجهادية قد شهدت تراجعا وانحسارا كبيرا خلال السنوات التي سبقت تلك الثورات، فإنها وجدت فيها مدخلا للولوج منه لاستعادة حضورها ودورها وفعاليتها حتى بات تمددها وانتشارها السمة الغالبة على الأوضاع السائدة في مرحلة ما بعد الثورات، وتمكنت من فرض سيطرتها على الإقليم، ولم يعد هناك دولة بمنأى عن عملياتها. ومن خلال دراسة هذه الأوضاع يمكن فهم أسباب صعود وتعاظم الجماعات الجهادية، ومن أهمها:

1- تفكك وضعف السلطة المركزية والجيوش، في عدد من الدول، كالعراق وسوريا وليبيا واليمن.

2- توفر الحواضن المزدوجة: حيث تحظى العديد من الجماعات الجهادية بحواضن هجينة ما بين الرسمية والشعبية والمحلية والإقليمية والعشائرية والقبلية.

3- غياب الضد النوعي: حيث أن غياب “الضد النوعي”وهو الافتقاد لقوات مواجهة في كثير من الحالات تنتمي إلى نفس المذهب مثل العشائر السنية في العراق، ولديها القدرة على تعبئة القدرات العسكرية والشعبية، أدى غيابها الى الإخفاق في مواجهة توسع الجماعات الجهادية التي تتحالف فيما بينها.

4- صعود الهويات الإثنية والطائفية.

5- صعود الإسلام السياسي: فكان لصعود جماعات الإسلام السياسي وممثلها الأبرز جماعة الإخوان المسلمون اثر واضح على تعاظم الجماعات الجهادية، خاصة بعد نجاحها في الفوز بالانتخابات وتسلمها مقاليد الحكم في دول كمصر وتونس، وبروز تأثيرها في دول أخرى كاليمن وليبيا وسوريا، كونها كانت الأكثر تنظيما وقدرة وتمويلا، وتمكنا من الاستمرار. وقد وفر هذا الصعود حاضنة للجماعات الجهادية منحتها مساحات واسعة من حرية الحركة والنشاط.

سادسًا: التحالف الدولي ضد الإرهاب: تناقضات وعدم وفاق

يعتبر تناقض وتباين الرؤى والمصالح بين أطراف التحالف الرئيسية بمثابة الأزمة الأبرز والأكثر تعقيدا بين مجموع الأزمات التي يعاني منها هذا التحالف، خاصة في تقييم تلك الأطراف للتهديد الذي يمثله تنظيم الدولة وللأولويات الخاصة بالصراع في المنطقة، ومن الأمثلة على ذلك:

– ظلت تركيا تطالب بإقامة منطقة عازلة على الحدود مع سوريا تديرها المعارضة السورية المعتدلة، وهذا ما رفضته الولايات المتحدة خشية من أن تتحول المنطقة العازلة الى ملاذ آمن لجماعات جهادية أخرى يُعتقد بان لديها علاقات مع الأتراك مثل جبهة النصرة.

– امتناع مصر عن المشاركة العسكرية، واقتصار دورها على البعد الاستخباري.

– لم يمنع استبعاد التحالف لقوى دولية مثل روسيا والصين، وقوى إقليمية مثل إيران، من أن تقوم هذه الدول ومن منطلق الحفاظ على مصالحها ونفوذها في المنطقة بالمشاركة في الصراع الدائر، حيث جاء التدخل العسكري الروسي تحت بند مواجهة التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها تنظيم الدولة، بناء على طلب الحكومة السورية وبالتفاهم والتنسيق مع إيران، وبتأييد ودعم الصين.

من خلال ما سبق يمكن تبين حجم الفرص التي تهيؤها التناقضات والتجاذبات الدولية والإقليمية، للجماعات الجهادية وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية، والتي تجد فيها منفذا للحفاظ على نفسها، وتمدها بأسباب ومقومات الصمود، والقدرة على امتصاص الضربات والانتكاسات التي تتعرض لها. كما تلقى بظلال من الشك على قدرة التحالف الدولي في تحقيق انتصار حاسم على هذه الجماعات، والقضاء على الخطر والتهديد الذي تشكله على الآمن والسلم الدوليين.

سابعًا: الجماعات الجهادية: من واقع مؤلم إلى مستقبل غامض!

بعد أن تم إلقاء نظرة شاملة على تاريخ الجماعات الجهادية ومسار تطورها، وإطارها المفاهيمي والتطبيقي، وبعد أن ترسخت “كظاهرة” في المنطقة العربية بأخطر صورها وأقوى مراحلها، ومن صور هذه الظاهرة، ميزات وخصائص وقدرات تنظيم الدولة العنوان الأبرز بين الجماعات الجهادية الأخرى[3]، بالإضافة لما سبق ذكره من مقومات وقدرات تتمتع بها الجماعات الجهادية وعلى رأسها تنظيم الدولة، فقد برزت بعض المظاهر المرتبطة بخارطة انتشارها واتساع دائرة فعلها، عززت من قدراتها وزادت من درجة خطورة فعلها ونشاطها،ومن أهم هذه المظاهر:

1- الأحزمة الجهادية: حيث توجد العديد من الجماعات الجهادية في مناطق الحدود الرخوة والتي باتت تشكل أحد أهم محركات قوتها؛ اقتصاديًا وعسكريًا وتجاريًا ولوجستيًا… الخ.

2- أزمات ذات أبعاد دولية: حيث أدت سيطرة الجماعات الجهادية على بعض المدن في ليبيا وخاصة الساحلية منها، الى ارتفاع منسوب خطر عملياتها وفعلها، بعد أن كانت هذه السيطرة مدخلا لتفجر أزمات ذات أبعاد دولية، فقد أدت سيطرة تنظيم الدولة على مدينة سرت الساحلية الى ارتفاع منسوب الهجرة غير الشرعية الى أوروبا، بحكم قربها من السواحل الأوروبية، الأمر الذي فجر أزمة أخلاقية في وجه أوروبا تمثلت بآليات استيعاب الأعداد الضخمة من اللاجئين.

3- المقاتلون الأجانب: ترتبط ظاهرة المقاتلين الأجانب في صفوف الجماعات الجهادية ببروز نمط من الإرهاب متعدد الجنسيات والثقافات واللغات، وتعتبر هذه الظاهرة من اخطر ارتدادات تعاظم الجماعات الجهادية على المستويين الإقليمي والدولي. ففي حين بلغ عدد المقاتلين الأجانب (12) ألف مقاتل عام 2014، فقد تضاعف ليصل بين 27 ألف الى 31 ألف مقاتل في عام 2015، كانوا قد قدموا من حوالي 86 دولة

4- “الذئاب المنفردة”: وهي ظاهرة والتي تعني أن منفّذي الهجمات المسلحة يعملون بشكل فردي ومن دون الارتباط بالضرورة بنظام إمرة تسلسلي، أو يشكلون خلايا محدودة العدد تكون في حالة كمون، وعادة ما يكون أفرادها غير معروفين لأجهزة الأمن.

من أبرز النتائج التي يمكن استنباطها مما سبق شرحه وتحليله:

– ما بين 20 الى 30% من المقاتلين الأجانب عادوا إلى بلدانهم الأصلية لتنفيذ هجمات لصالح التنظيم، الأمر الذي خلق تحديات كبيرة لأجهزة الآمن المحلية.

– يُظهر تزايد أعداد المقاتلين الأجانب مدى ضآلة الجهود التي تبذلها البلدان في جميع أنحاء العالم من أجل وقف هذه الظاهرة.

– تبرز في هذا السياق مسألة التجنيد الالكتروني التي تقوم بها الجماعات الجهادية لمقاتلين جدد من الدول الغربية والتي تتم في معظمها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنت، وهذا أمر تواجه فيه الدول المتضررة صعوبة كبيرة في السيطرة عليه، وهو ما يبرز احد ركائز قوة الجماعات الجهادية وتفوقها خاصة تنظيم الدولة.

من جانبٍ آخر، كشف الباحث في دراسته هذه واقعٍ مؤلم يواجهه تنظيم الدولة، من خلال العديد من المخاطر التي تهدد قدرته في الحفاظ على ما حققه من مكتسبات وانجازات، منها:

– الخطر الذي يواجهه من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

– مخاطر محلية عديدة، أهمها الإجراءات الأمنية والعسكرية التي تتخذها كل دولة على حدة لمحاربته والحد من نفوذه.

– كما أن إستراتيجية التنظيم نفسه ضد الآخر من قوى وفصائل، بما فيها الإسلامية وحتى الجهادية، بالإضافة إلى المذاهب والأديان الأخرى.

– تزايد استياء السكان المحليين في المناطق الخاضعة لسيطرته، بمجملها، أدت إلى اتساع دائرة أعدائه.

– هذا في الوقت الذي يتصاعد دور للمؤسسات الدينية الرسمية، ومشايخ التيار السلفي التقليدي في مواجهة أفكار هذه الجماعات.

ثامنًا: ضبابية المستقبل وعدم وضوحه

لم يعد المراقب و/أو المحلل قادرًا على رؤية ما وراء الأفق؛ بسبب الضباب الكثيف الذي يعمي البصر والبصيرة، في آنٍ معًا، ولعل ذلك يعود إلى عدة أسباب، منها:

1- بالرغم من تعدد المخاطر التي تواجهها هذه الجماعات قيد النقاش، وتوفر العديد من الثغرات التي يمكن الولوج منها لمحاربتها، إلا أن ذلك يبقى في الإطار النظري بسبب العجز عن استثمار جميع تلك المخاطر، وصياغتها ضمن رؤية إستراتيجية شاملة تحظى بتأييد ودعم الدول كافة.

2- لم يقم التحالف الدولي والإقليمي (المصطف!) لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية بدراسة هذا التنظيم، من حيث: مكوناته، وأهدافه وتناقضاته، وفرص نجاحه وفشله.

3- عند متابعة ما يقوم به التحالف الدولي، نجد أنفسنا أمام ظاهرة أكثر تعقيدًا، إذ أن هناك ما يشير إلى تدني مستوى فعالية التحالف، وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى العديد من الأزمات المتداخلة والمعقدة التي يعاني منها التحالف، والتي قد تكون كافية لتوفير مقومات فشله أو الحد من فعاليته، ومن ابرز هذه الأزمات:

– غياب رؤية إستراتيجية شاملة.

– تجزئة الإستراتيجية العسكرية، التي تقتصر على الضربات الجوية، ورفض الغالبية العظمى من الأطراف المشاركة بقوات برية خشية من ارتفاع فاتورة الخسائر البشرية.

– تواجه إستراتيجية التحالف في العمل على تدريب وتأهيل السنة في العراق وسورية صعوبات وتعقيدات سياسية وفنية جمة.

تاسعًا: ويبقى السؤال.. المنطقة إلى أين؟

في ظل هذا المشهد، نجد أن الانتصار على الجماعات الجهادية وفي مقدمتها تنظيم الدولة، وإلحاق هزيمة ساحقة بها والقضاء عليها، أمر يكاد يكون مستحيلا، وهنا لا نقصد تحقيق انتصارات جزئية هنا أو هناك، حيث تبقى قدرة التحالف في تحقيق انتصار حاسم على تنظيم الدولة والجماعات الأخرى، مرهونة بمدى استجابة القوى الرئيسية والفاعلة فيه إيجابا مع العديد من المحددات أهمها:

1- محددات ذات علاقة بتحقيق انتصار عسكري على تنظيم الدولة.

2- محددات ذات علاقة بـ “معالجة الأسباب والمقومات التي توفر المناخات المناسبة لنمو وترعرع الجماعات الجهادية”

ولديمومة السلم والأمن المجتمعي في المنطقة، يرى الباحث أنه لا بد من دراسة متمعنةلموازين القوى التي تشكل عناصر المعادلة في مواجهة هذه الظاهرة، ودراسة مدى نجاعة الخطط والبرامج والأساليب المتبعة،، استنادا إلى دراسة مدى التوافق والتكامل بين مجمل العناصر التي تشكل المحور أو الجهة التي أخذت على عاتقها مواجهة هذه الظاهرة ومخاطرها.

لنا كلمة،

لقد استغرق الأمر معي عشرات الساعات، التي توزعت بين القراءة المتمعنة، وإعادة القراءة، ثم الكتابة وإعادة الكتابة؛ وذلك لثقل المسؤولية التي وجدتُني تحت وطأتها، وأنا أشفق على الباحث “أنور رجب محمود خليل” في بحثه الموسوم “تعاظم دور الجماعات السلفية الجهادية في ظل ثورات الربيع العربي”، الذي وجدته وقد دخل نفقًا شديد الحلكة والظلمة، كان عليه أن يستخدم عددًا كبيرًا من المجسات الحساسة جدًا، التي تمكنه من التحرك دون أن يرتطم بما يحبطه ويجعله يتوقف عن الاستمرار في بحثه هذا.

فقد كان الباحث موفقًا في التقديم التاريخي والعقائدي لنشأة الجماعات السلفية الجهادية، وإعادتها إلى جذورها الفكرية التي ظهر منها أنها تعود إلى منهجيْن رئيسييْن شكلا الجذور العميقة التي تغذي تلك الجماعات. فأما المنهج الأول فهو “الإخوان المسلمون”؛ من خلال “سيد قطب”، الذي كان لكتابه “معالم في الطريق” الأثر الواضح في تشكيل المرجعيات الفكرية للجماعات السلفية، كما كان له الدور الأبرز في إنتاج مفاهيم الجاهلية الجديدة والحاكمية الإلهية والجهاد، وتوظيفها كسلاح معرفي وعقائدي في يد المنتمين إلى الجماعة. وأما المنهج الثاني، فهو السلفية المدرسية الوهابية التي ولدت فيها عقيدة الولاء والبراء.

وإذا ما علمنا بأن المنهجيْن المذكوريْن هما الآن على الطرف الآخر المناقض، تمامًا، للجماعات السلفية الجهادية وعلى رأسها تنظيمي الدولة الإسلامية والقاعدة، فإننا قد ندرك حجم الهوّة السحيقة التي تحياها الأمة المتجهة نحو حالة من الاقتتال المستمر لمديات زمنية لا يعلمها إلا الله. وأما من يدفع الثمن في هذا كله فهو الأمة من هيبتها واستقرارها وحضورها بين الأمم، كما أنه يعزز الادعاء الغربي الظالم للإسلام وأهله الذي يطلقون عليه “إسلاموفوبيا”، مع خطورة أن تتمكن تلك الدعاية المغرضة من أن تنقل تلك “الفوبيا” إلى المجتمعات الإسلامية نفسها. وما يعنيه ذلك من تشويه للعقيدة الإسلامية السمحة؛ دين البشرية جمعاء الذي أنزل بالحق من لدن غفور رحيم.

أما الجزء الآخر من الحلقة الصلبة المؤلمة التي تطبق على عنق أمتنا بشكل عام، ومنطقتنا بشكل خاص، فهم الأعداء المستعمرون الذين يسعون إلى السيطرة على المنطقة، من أجل تحقيق غايتين رئيسيتين: فأما الأولى فهي ضمان أمن واستقرار رأس حربتهم في المنطقة “إسرائيل”. وأما الغاية الثانية فهي ضمان السيطرة على الثروات التي تختزنها الأمة فوق الأرض وتحت الأرض، وما تمثله جغرافيتها من أهمية استراتيجية تدفع بالقوى الاستعمارية إلى المحافظة على الأمة في حالة ضعف وهوانٍ دائميْن.

وفي جانب اللعبة الاستخبارية الكبرى التي تعرضت لها المنطقة، والتي حققت حالات اختراق موجعة للتنظيمات والفصائل والقوى قيد النقاش، يبدو أن أحد المجسات قد أشار على الباحث بعدم الخوض فيها. إذ لوحظ المرور السريع على ما جرى في أفغانستان إبّان الغزو السوفييتي الذي ووجه بـ “غزو أمريكي”. وفي كلا “الغزويْن” نجد أن شباب الأمة الإسلامية بشكل عام، والأمة العربية بشكل خاص هم الوقود الذي أشعله الغزاة من أجل إنارة الطريق لكل منهما للاقتصاص من الآخر والانتصار عليه. كما أن مصطلح “ثورات الربيع العربي” الذي اعتمده الباحث في دراسته هذه، في إشارته إلى الحالة الدامية التي تنهك جسد الأمة وتنخر عظمها، فهو مصطلح أمريكي الأصل والفصل، ولم يكن ببعيد عن منهجية “الفوضى الخلاقة” التي تبنتها كوندليزا رايس/وزيرة الخارجية الأمريكية في حقبة جورج بوش الإبن.

علمًا بأننا وجدنا الباحث وقد أشار إلى الخلل الواضح، بل الفاضح، في الاستراتيجيات التي تدّعيها القوى الغربية ومن يتحالف معها في المنطقة، في التعامل مع ما يجري بحق أبنائنا، بخاصة في العراق وسوريا وليبيا، من ظلم وجوْر وعذاب وتعذيب واستباحة حرمات. إذ أن ما أسماه الباحث “تجزئة الاستراتيجية العسكرية” يعني الانتقائية في الضربات والأهداف المضروبة؛ بما يضمن استمرار النيران ملتهبة في المنطقة إلى أبعد مدى زمني ممكن.

في جميع الأحوال يكون شبابنا هم الوقود الذي يلهبه الغرب والشرق الاستعماريان من أجل إنارة الطريق؛ الأقرب والأسهل والأقل كلفة نحو استباحة خيرات الأمة وأمنها واستقرارها، ومن أجل ضمان الإبقاء على الأمة مهزومة مكلومة تترنح تحت ضربات الاقتتال الداخلي من جانب، والقتال الشرس الدائر على أرضها من جانبٍ آخر.

قبل أن نغادر، لا بد من الإشارة إلى أننا أمام دراسة جادّة طرقت أبواب موضوع ليس من السهل الدخول إليه. فقد حصد الباحث ما استطاعه وجعله بين أيدينا ملكًا معرفيًا نحن بأمس الحاجة إليه في هذه الأجواء التي يختلط فيها الحابل بالنابل على أرض الرسالات وأرض الثروات التي لا يُقاتَلُ فيها العدو (البعيد ولا القريب)، بل يُذبح فيها الإنسان على الهوية. وأكاد أجزم أن الباحث “أنور رجب محمود خليل” قد وضع الباحثين القادمين أمام تحديات حقيقية في سبر غور الموضوع والتعريج على عدد من القضايا والتفاصيل، بخاصة تلك التي تتعلق باللعبة الاستخبارية في المنطقة، التي لم تنل ما تستحقه في هذا البحث.

________________________________________

[1] أباح شيخ الأزهر الخروج على الحاكم، بقوله: ومن قال من فقهائنا بوجوب الصبر على المستبد من الحكام حرصاً على سلامة الأمة، فقد أجاز في الوقت نفسه عزل المستبد الظالم اذا تحققت القدرة على ذلك وانتفى احتمال الضرر بسلامة الأمة”.

[2] لعب كلاً من عبد الله عزام وأسامة بن لادن دوراً محورياً في مسألة الجهاد في أفغانستان، وتعزيز ظاهرة الأفغان العرب، فتم تأسيس مكتب للخدمات؛ بهدف استقبال المساعدات والمعونات الإغاثية وتوزيعها، واستقبال المتطوعين العرب وتنسيق مشاركتهم في الجهاد الأفغاني.

[3] الغالبية العظمى من الجماعات التي تنتمي للتيار السلفي الجهادي منقسمة ما بين تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة أو تدور في فلك احدهما.

 

ج القدس

الاخبار العاجلة