الرزق بين ألسنة اللهب

4 مايو 2020آخر تحديث :
الرزق بين ألسنة اللهب

زهران معالي

فوق البيادر المنتشرة على سفوح تلال عدة، مطلة على المنطقة الشمالية من بلدة عجة جنوب جنين، يراقص مئات العاملين سنابل القمح وسط ألسنة اللهب، لإنتاج آلاف الأطنان من الفريكة، إحدى أهم الأكلات الشعبية بالنسبة للفلسطينيين، وبعض بلاد الشام.

وعادة ما يستمر موسم الفريكة نحو 40 يوما من كل عام، بين حصاد وشواء في فترة تمتد من منتصف نيسان/ أبريل ولغاية أيار/ مايو، فيما تستمر مراحل التجفيف والتنقية والتغليف في مصانع عدة بالبلدة، حتى تصل لموائد الجمهور، عدة أشهر إضافية.

وينتظر المزارعون في محافظة جنين، خاصة بلدتي عجة ودير غزالة اللتين تشتهران بالفريكة، والقرى والبلدات المحيطة بهما، الموسم بشوق لما يشكله من مصدر دخل مهم للعائلات.

لكن هذا العام، انضم لفرق “الفراكة” المعروفة بعملها بهذا الموسم، والتي تتوزع على البيادر بمجموعات تتراوح بين 10-20 فردا، مجموعات جديدة من العاملين داخل أراضي الـ1948، والذين اضطروا لالتزام منازلهم منذ شهر آذار/ مارس الماضي، إثر رفضهم المبيت في أماكن عملهم، عقب إعلان حالة الطوارئ، وإغلاق الاحتلال للمعابر، ضمن جهود مكافحة فيروس “كورونا”.

على إحدى تلك البيادر، تتعالى أعمدة دخان شواء السنابل، فيما تشهد حركة نشطة لعشرة عاملين، يتقاسمون مهام البيدر الموزعة بين مسك لخراطيم موصلة بعبوات غاز تعرف “بالشاروخ” تضخ ألسنة اللهب، وأخرى لمذراة تعرف شعبيا “بالشاعوب” لتقليب السنابل بين اللهب المتصاعد، وبين من يطعّم آلات خاصة تجرها جرارات زراعية تسمى “بالدرّاسة” لفصل حبوب الفريكة عن قشورها، وآخرون يعبئونها بأكياس تمهيدا لنقلها للمصانع للتنقية والتجفيف والتغليف.

جميع العاملين العشرة بفرقة “أبو البلد” اضطروا لترك عملهم داخل أراضي 48 في قطاعي البناء والزراعة، بداية آذار الماضي، والالتحاق بالعاملين بموسم الفريكة هذا العام الذي بدأ قبل قرابة أسبوعين.

بينما كان يقلب قائد الفرقة نور معالي (60 عاما)، سنابل القمح من الشوائب عبر “الشاعوب” كما تعرف شعبيا، يتحدث لـ”وفا”، أنه “منذ خمس سنوات لم أعمل بموسم الفريكة نتيجة مشاكل في جهازي التنفسي، لكن هذا العام اضطررت للعودة لمنزلي خوفا من فيروس كورونا وإغلاق المعابر”.

يقول “عدت لمنزلي بعد أن عرض المشغل الإسرائيلي أن ينصب لنا خياما بين الأشجار في بيارة الحمضيات التي نعمل بها، واضطررت مع عمال آخرين لترك العمل، خوفا على حياتنا، فأنا اعمل منذ ثلاثين عاما هناك”.

“العمل في موسم الفريكة شاق جدا ومتعب خاصة أنها بين ألسنة اللهب، لكنها أرحم من المبيت في الخيام بين أشجار البيارة، وإذا اشتغلت تأكل وإذا قعدت يقتلك الجوع هذا حال العمال”. يؤكد معالي.

وتضم فرقة “أبو البلد” التي يقودها معالي، خمسة من أبنائه بينهم اثنان متزوجان، وأربعة من أنسبائه، كانوا يعملون داخل أراضي 48، اضطروا للعمل بموسم الفريكة هذا العام، لتأمين قوت عائلاتهم، وتغطية التزاماتهم المالية، وفق ما يؤكد معالي.

بينما كان يرتدي كمامة ويقلب سنابل القمح، تحدث ابنه عمر (30 عاما) الذي اختفت ملامح وجهه بعد أن غطاها “الشحبار/ السناج” الأسود، “لبست الكمامة لأحمي جهازي التنفسي من الغبار، لا من كورونا”.

ويضيف عمر لـ”وفا”، إنه “منذ 16 عاما أعمل في مجال البناء داخل أراضي 48، وعادة التحق بالعمل بموسم الفريكة بنهايته، فترة الأعياد اليهودية في شهر أيار، لكن هذا العام اضطررت للعمل مبكرا في الموسم”.

“الأجر بالداخل كان يتراوح بين 350-400 شيقل يوميا، لكن هنا الأجرة معروفة 200 شيقل، لدي خمسة أطفال أصغرهم ولد قبل يومين، ولدي التزامات كبيرة”، يضيف عمر.

ويتناول المواطنون الفريكة طرية قبل التجفيف، كما تتناول حساء “شوربة”، أو مقلوبة فريكة مع لحمة.

ووفق مؤشرات جهاز الاحصاء المركزي الفلسطيني، نشرت في 13 نيسان/ إبريل الماضي، فإن عدد العاملين في إسرائيل والمستعمرات الإسرائيلية بلغ 133,300 عامل، بواقع 110,400 عامل في إسرائيل و22,900 عامل في المستعمرات، فيما بلغ معدل الأجر اليومي للمستخدمين بأجر في إسرائيل والمستعمرات 254 شيقلا.

مؤخرا، توجه قرابة 40 ألف عامل فلسطيني، إلى أماكن عملهم داخل أراضي الـ48، ضمن شروط محددة، أهمها الالتزام بالمبيت في أماكن عملهم حتى نهاية شهر رمضان المبارك، وبتعهد من المشغلين الإسرائيليين بتوفير أماكن مبيت لائقة لهم، وفق ما أكد في الناطق باسم وزارة العمل الفلسطينية رامي مهداوي.

ويرتدي جميع العاملين في البيدر، أكفا بلاستيكية وكوفية تغطي الرأس ونظارات تحمي العينين، وبينهم الشاب عزت سليمان (27 عاما) وهو متزوج منذ قرابة عامين، وكان يعمل داخل أراضي 48.

سليمان الذي تولى مهمة إطعام الدرّاسة بالسنابل المشوية، يتحدث لـ”وفا”: “لا أستطيع البقاء في المنزل، لدي التزامات متراكمة منذ الزواج وبناء البيت، لابد من تأمين قوت يومي”.

ويضيف “العمل بالفريكة حاليا هو المتوفر وموسم يجب استغلاله، العمل في قطاع البناء أسهل ويجني دخلا أكبر، لكن هي لقمة العيش لا يمكن أن أبقى في المنزل حاليا خاصة أننا في شهر رمضان، والعيد على الأبواب”.

منير سليمان صاحب البيدر (28 عاما)، والذي ترك عمله بمجال البناء داخل أراضي 48، لرفضه المبيت هناك، يقول لمراسل “وفا”: إنه سليل عائلة تعمل بالفريكة منذ أكثر من 20 عاما، وأنها تنتج سنويا قرابة مئتي طن منها”، مضيفا إن “أتعب شغلة بالحياة العمل بالفريكة، إنها العمل في قلب النار”.

ووفق سليمان، فإن الإنتاج يعتمد على الموسم المطري، وأن استهلاك الغاز اللازم في شواء السنابل يزداد كلما ازدادت الرياح، حيث يستهلك يوميا في الأجواء الصافية 8 عبوات سعة 12 كغم، لكن يتوقع أن يصل استهلاك اليوم 17 عبوة من ذات السعة، بفعل الرياح.

وعادة يبدأ المزارعون منذ السادسة صباحا، رحلة البحث عن لقمة العيش بين ألسنة اللهب، ويشرعون بنثر سنابل القمح التي قطفت مساء على بيادر لتجف لعدة ساعات، قبل أن يعودوا وقت الظهيرة لتبدأ عملية الحرق والدراس حتى ساعات ما قبل الغروب.

ووفق سجلات وزارة الزراعة، فإن مساحة الأراضي المزرعة بالقمح بلغت العام الماضي في الضفة الغربية وقطاع غزة 133 ألف دونم، يستغل منها بين 5000-7000 دونم في جنين وطوباس والأغوار الشمالية لإنتاج الفريكة.

وتبلغ كلفة زراعة دونم القمح الواحد قرابة 150 دولارا وهي مرتفعة وفق لحلوح، ما يحد من ربح المزارع.

الاخبار العاجلة