الثائران اللذان أشغلا البوليس البريطاني لسنوات

20 أغسطس 2020آخر تحديث :
الثائران اللذان أشغلا البوليس البريطاني لسنوات

الحارث الحصني

سُجلت كواحدة من أشهر قصص الثوار الفلسطينيين إبان الانتداب البريطاني على فلسطين، الذي حل بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وظل حتى العام 1948.

كان الحكم العثماني على فلسطيني في أواخره، عندما ولد أحمد محمود الشهير “بأبو جلدة”، من بلدة طمون جنوب طوباس عام 1900، وصالح أحمد مصطفى، الشهير “بالعرميط”، والذي لم يعرف تاريخ مولده بالضبط، في قرية بيتا بمحافظة نابلس.

هرب أبو جلدة من التجنيد الإجباري إلى حيفا واشتغل عاملا في مينائها، وهناك التقى “العرميط”، ليشغلا البوليس البريطاني لسنوات، حتى ألقي القبض عليهما قرب نابلس.

وبالرغم من أن التاريخ في تلك السنين كان مليئا بأسماء الثوار الذي شاركوا في مجابهة الاستعمار البريطاني، إلا أنه اسميهما برزا على مدار الأعوام 1930-1934، حتى قالت عنهما جريدة “الدفاع” في أحد أعدادها الصادرة في تلك الفترة: “ولولا موقفهما هذا لما ذكرنا كلمة عنهما، لأنه على كل حال موقف من يعتز بنفسه أمام الموت”.

وتشير الأخبار إلى أن البريطانيين أقاموا عام 1933 مقرا لهم في طوباس لمطاردتهما والقبض عليهما.

ونقلت جريدة “مرآة الشروق”، في عددها الصادر يوم السبت 14 نيسان عام 1934، “جاءنا والجريدة تحت الطبع أن البوليس قبض على أبي جلدة وعلى حامل سلاحه العرميط في جهات نابلس أمس الساعة 2 بعد الظهر”.

ونشرت “جريدة الدفاع” في عددها الصادر يوم السبت، 21 نيسان لعام 1934 أنها تلقت من مراسلها الخاص ما يلي:

“بعد أن ألقى أبو جلدة سلاحه إلى خارج الكهف، تقدم من الجنود فألزموا يديه الأغلال، إلا أن أحد الجنود أخذ يؤنبه بكلام قارص، لم يحتمله فأجابه بحدة قائلا: أفتخر بأنني شغلت الحكومة وقواتها، العظيمة كل هذه المدة، ولولا أنني اتجنب أن يصاب من جديد أحد الأنفار بسوء لقاومت إلى النفس الأخير ولكنني صرت أكره القتل”.

الجريدة ذاتها، نشرت ظروف التحقيق مع الرجلين.

كان الثالث والعشرين من شهر نيسان، عام 1934، موعد التحقيق في قضية الرجلين، عندما أحضرا عند السابعة ونصف من صباح يوم ذلك التاريخ، مكبلين بالسلاسل.

في ذلك اليوم استمع قاض لــ15 شاهدا، وكل شهاداتهم أثبتت “إدانة” أبي جلدة والعرميط بالقتل.

بعد شهرين تقريبا، أوردت “الدفاع” في عددها الصادر يوم الأربعاء، 27 حزيران، عام 1934، في الخط العريض، وفي صفحتها الأولى خبرا مفاده الحكم بالإعدام على أبي جلدة والعرميط.

وجاء في نص المحكمة: “كان اليوم هو اليوم الثاني لمحاكمة أبي جلدة والعرميط، وقد غصت قاعة المحكمة بالحاضرين على رحبها وجاء جمهور كبير من القرويين، وفي تمام الساعة التاسعة انعقدت المحكمة برئاسة المستر بيكر، ودام انعقاد المحكمة حتى الثانية عشرة، ورفع المستر بيكر الجلسة لغاية، الساعة الثانية ونصف بعد الظهر… ثم حان موعد النطق بالحكم: “حكمت هذه المحكمة عليك يا أحمد محمود أبي جلدة، وأنت يا صالح العرميط، بالإعدام”.

جريدة “مرآة الشرق” نشرت حينها النص ذاته.

هذه الأيام يمكن تصور المشهد كاملا في اليوم الذي نفذ فيه حكم الإعدام يحق الرجلين، فتحت عنوان “أبو جلدة والعرميط أمام حبل المشنقة، اقرأ التفاصيل كأنك تشهد ذلك الموقف”، كتبت “الدفاع”.

وبحسب الجريدة التي كانت تصدر في تلك الفترة، فإن “حكم الإعدام نفذ بالحادي والعشرين من شهر آب، عام 1934، بحضور، حضرة نصوحي بك بيضون قائم مقام القدس، وحضرة حسين بك الخالدي، رئيس الأطباء، والمستر سبايسر مدير الأمن العام، والمستر استيل مدير السجن المركزي وطبيب السجن والضابط البريطاني الذي ألقى القبض عليهما وعدة أفراد من البوليس البريطاني والعربي”.

أمرت إدارة السجن، والصحة، أن ينفذ الحكم في العرميط قبل أبي جلدة، ولكن أبا جلدة تقدم للمشنقة قبل زميله وطلب تنفيذ حكم الإعدام فيه أولا، غير أن الإدارة رفضت طلبه لأن العرميط كان أضعف معنويا، نوعا ما من أبي جلدة”.

“وعندما ودع العرميط أبا جلدة قال له هذا لا بأس في هذه النتيجة، ولا يأخذك الأسف على هذه الحياة في مثل هذا الحكم الجائر وأن من يغلب الرجال سيغلب ذات يوم”.

عندما تقدم العرميط إلى حبل المشنقة، حتى شرع أبو جلدة يغني أغنيات قروية حماسية بصوت مرتفع جدا من الساعة الثامنة حتى الثامنة والدقيقة الخامسة والأربعين.

وقد قال أحد أفراد البوليس البريطاني الذي كان حاضرا تنفيذ الحكم عن أبي جلدة: “إن وجهه كان مخيفا، وإمارات الرجولة ظاهرة عليه، وله قلب أقوى من قلب الأسد، وفي الحقيقة أن أبا جلدة بطل وهو أشجع رجل شاهدته في حياتي كلها سواء في فلسطين أو في بلاد انجلترا، وأني كنت ولا أزال أتمنى لو أن الحكومة فشلت في إلقاء القبض عليه لأن إعدام مثل هذا البطل حرام”.

بعد تنفيذ الحكم على الرجلين، نقلا في مركبتين كل واحد منهما في مركبة خاصة إلى نابلس ومنها إلى قريتهما ليدفنا فيهما. أما أقاربهما فكانوا في ساحة السجن يندبون ويولولون ويصرخون.

“وهكذا انقضت حياة هذين الرجلين الذين أشغلا الحكومة والرأي العام، مدة تنوف عن السنة، ولا شك أن في موتهما صفحة من صفحات الشقاوة الجامحة”.

بعد تنفيذ الإعدام، دفن العرميط في مقبرة نابلس، وأبو جلدة في مسقط رأسه طمون.

الاخبار العاجلة