السترات الصفراء تصنع التاريخ

10 ديسمبر 2018آخر تحديث :
عمر حلمي الغول

رام الله- صدى الإعلام

بقلم عمر حلمي الغول- عن الحياة الجديدة

دخلت فرنسا مرحلة نوعية جديدة من التناقضات الداخلية التناحرية بين الطبقات الوسطى والعمال والفئات والشرائح الإجتماعية الفقيرة خصوصا والنظام السياسي منذ ال17ـ من تشرين ثاني/ نوفمبر الماضي مع نزول اصحاب السترات الصفراء إلى الشوارع لتطالب بالغاء رفع أسعار الوقود، ثم تدحرجت المطالب إلى رفع مستوى الدخل، ووصلت السبت الماضي (8/12/ 2018) الذروة بالمطالبة برحيل الرئيس ماكرون، والخروج من الاتحاد الأوروبي، وهناك مؤشرات بأن يضحي الرئيس الفرنسي برئيس الوزراء إدوار فيليب.  
ظاهرة السترات الصفراء حسب متابعات المختصين بدأت في مايو/ أيار الماضي حين قامت مجموعات فرنسية من تيارات ومشارب مختلفة بتهيئة وإعداد وتسخين الشارع الفرنسي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتتميز هذه الظاهرة بافتقادها لرأس محرك أساسي، ولا ترتبط بأي صلة مع الأحزاب التقليدية الكبيرة، وهي أقرب لحركة الخمس نجوم في ايطاليا، وبوديموس في اسبانيا، التي تمكنت من استلام الحكومات في بلدانها، وهو ما يخيف الأحزاب الفرنسية. ويمكن تشبيهها بحركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “إلى الأمام” بالمعنى النسبي، التي شكلها في نيسان/ إبريل 2016 عشية الانتخابات الفرنسية السابقة، التي جرت في مايو/ ايار 2017. لكنها أكثر تماثلا مع الحركتين الايطالية والاسبانية، مع ان النواة الصلبة (التي لم تكشف عن هويتها حتى الآن) من خلال توجهاتها شبه المعلنة والمعلنة أكثر إدراكا لمطالبها الاجتماعية والاقتصادية وبالتالي السياسية. 
وتبدى ذلك في أحد الشعارات الرئيسة للاحتجاجات الفرنسية، التي دونت على ألوان العلم الثلاثة تواريخ الثورات والاحتجاجات الرئيسة في بلاد الغال للربط بينها: 1789، و1968، و2018. إلآ انها ظاهرة اجتماعية متميزة/ وبخصال وسمات خاصة لا تتشابه مع ما سبقها من أحداث. لان لكل تاريخ ملامحه الخاصة، وتحديدا ما يجري الآن على الأرض لا يوجد وجه شبه مع ما سبقه من أحداث في فرنسا لجهة التالي: اولا- غياب الرأس القيادي، الذي يمكن ان تتفاوض معه الرئاسة والحكومة، وهو ما يزيد الأمور تعقيدا. ثانيا- عدم ربطها بفكر أو أيديولوجية محددة. كما حصل مثلا في الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، وهي لا تشبه بالضرورة احتجاجات الحركة الطلابية في 1968، التي تلازمت مع نضال السود في أميركا للمطالبة بالمساواة، وإلغاء العنصرية، وايضا مع الكفاح التحرري للثورة الفيتنامية، وحركات التحرر العالمية. ثالثا- لم تأخذ الطابع الطبقي في الصراع مع حكم ماكرون، وهي حركة منسابة وهلامية تحاول تحشيد كل الشارع الفرنسي بتلاوينه وشرائحه وطبقاته المختلفة. رابعا- لا تشبه تماما ما يسمى بـ”ثورات الربيع العربي” 2011 إلآ من زاويتين: اعتماد مواقع التواصل الاجتماعي لاستقطاب الشارع الفرنسي، والدعوة لإسقاط النظام، لكنها تختلف من زاوية رفضها تدخل قوى أجنبية في مسار نضالاتها، أضف إلى انها تستهدف بشعاراتها العولمة وخاصة الأميركية، وينادي قطاع من أنصارها والمنخرطين فيها بتغيير قواعد العولمة، ووضع ضوابط لحركة رأس المال العالمي، وكبح جماح قوانين السوق والحد من انعكاساتها على مسار حياة المجتمع، وإعادة الاعتبار لدور الدولة في الرقابة على الاقتصاد والسوق، وكف يد عالم الخصخصة المنفلت من عقاله في استباحة مصير الشعوب والدول، وبموازاة ذلك عدم اقتصار رفع الحواحز أمام المال والسلع، بل يفترض ان تشمل ايضا فتح ابواب الحرية امام الناس جميعا في التنقل والسفر والعمل والهجرة، ودعم الشعوب والدول الفقيرة من خلال تعزيز فرص التنمية في بلدانها، والأخذ بيدها لبلوغ التحول الديمقراطي الحقيقي، وتعزيز التعاون بين الدول الكبيرة والصغيرة على أرضية التكامل. 
ما يجري في فرنسا بالمعنى العلمي للكلمة ثورة اجتماعية، ولكن بملامح وشروط التطور، الذي تشهده البشرية في عصر ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. غير أن هذة الثورة تحتاج إلى روافع لنضالها، وأبرز هذه الروافع يتمثل بضرورة وجود قيادة للتعبير عن مصالح المحتجين، بالإضافة لبرنامج محدد المعالم، رغم أهمية ما ورد أعلاه من نقاط برنامجية استراتيجية، لكنها لم تتبلور في برنامج كفاحي واحد وجامع، ومعلن رسميا، وايضا إمكانية تحشيد القوى الاجتماعية المحتجة عليه عبر التوافق فيما بينها. 
ما تقدم لا يشكل سوى القراءة الأولى لحدث عظيم، قد تكون له تداعيات إستراتيجية في كفاح الشعوب الأوروبية خصوصا وشعوب العالم عموما ضد طغم رأس المال المالي، والعولمة الأميركية المتوحشة، ويفتح الأفق نحو تحولات نوعية غير مسبوقة في مسار التاريخ العالمي. لا سيما وأن فرنسا بما لها من تجارب عظيمة في تاريخ الثورات الاجتماعية، يمكن ان تعود للإمساك بقرون التاريخ مجددا من خلال النتائج المتوقعة لاحتجاجاتها المتعاظمة. والمستقبل المنظور يملك الجواب القاطع للفرنسيين والأوروبيين والعالم.

الاخبار العاجلة