أجساد مُجمدة في شتاء السجون

14 يناير 2020آخر تحديث :
أجساد مُجمدة في شتاء السجون

صدى الاعلام _ رام الله :

كتب إيهاب الريماوي

كان البرد عدوّنا اللدود، يهاجمنا بثبات فيصيبنا إما بالرعدة وإما بالإسهال، ولا مجال لتفسير ذلك، في العادة البرد لا يسبب إسهالا، لكن الخوف هو الذي يسببه، وعندما يحل البرد الشديد كانت أيدينا تستحيل قطعا من الجماد، ومفاصلنا أيضا، فلا نعود قادرين على فركها ولا حتى تحسس وجوهنا بها، كان البرد الشديد يمنعني من التفكير كأنه مثقاب كهربائي يحدث ثقوبا في الجلد.”

هذه الكلمات مأخوذة عن رواية “تلك العتمة الباهرة” للكاتب الطاهر بن جلون، وهي تشبه كثيرا ما يصفه الأسير المحرر أحمد أبو عزام مصفر، عما يعانيه الأسرى في سجون الاحتلال الاسرائيلي في فصل الشتاء.

يعيش الأسرى داخل السجون على تعزيز شعورهم الداخلي بأن أجسادهم “ارتوت” بالدفء، ولا يعيشون على الأمور المادية الملموسة، وهذا ما يتأقلمون معه ويقنعون أنفسهم به في أيام البرد القارس، فإذا افتقدوا هذا الشعور حتما سيدخلون نوبات برد مؤلمة.

اعتقل مصفر، من قرية مزارع النوباني شمال غرب رام الله في أوج انتفاضة الأقصى عام 2002، في وقت شهدت فيه السجون اكتظاظا كبيرا مع تصاعد موجات الاعتقالات التي رافقت الانتفاضة، الأمر الذي انعكس على حياة الأسرى الذين لم يكن بمقدورهم تنظيم حياتهم وإدارة شؤونهم اليومية.

في المرحلة الأولى من الاعتقال عندما دخلت سجن الرملة كان الاكتظاظ شديدا، لم تكن هناك وفرة في الأغطية والملابس، وإدارة السجون منعت الزيارات وإدخال الحاجيات للأسرى، وقتها كان الأسرى يتقاسمون ما توفر لديهم من أغطية، خاصة أن وسائل التدفئة معدومة داخل غرف الأسرى”، يقول مصفر.

وفي شتاء السجون، يعتبر الأسير الذي يقبع في سجني عسقلان، وهداريم، “محظوظا”، باعتبارهما الأقل برودةً في فصل الشتاء، مقارنة مع البرد الكارثي في السجون الصحراوية كنفحة والنقب.

يحاول الأسرى التحايل على برد الشتاء، ودرجات الحرارة المتدنية في غرف السجن، حيث يقومون بإغلاق الشبابيك وباب الغرفة بالنايلون، ويحرصون على عدم ترك أي منفذ للهواء، ثم يقومون بتشغيل “البلاطة” التي يستعملونها للطهي، لكن السجان لا يترك للأسرى مجالاً بأن يذوقوا ولو القليل من الدفء، فيعمل على إزالة النايلون عن الباب الذي توجد فيه عدة فتحات لمرور الهواء.

رغم أن تسخين “البلاطة” لا يرفع من حرارة الغرفة، إلا أن الأسير عندما يشاهدها محمرة، فإن ذلك يولد لديه شعورا داخليا بالدفء.

“كنا نتحايل على البرد بممارسة الرياضة بمجهود عالٍ وارتداء ملابس ثقيلة، ثم نهرب إلى تحت الفرش، ولكن في أيام البرد الشديد فإن ممارسة الرياضة غير ممكنة، خاصة في السجون التي كانت فيها الخيام، حيث كان البرد ينخر في أجساد الأسرى، حتى أن بعضنا كان يقع مغشيا عليه في ساحة السجن عند ذهابه إلى الحمام” قال مصفر. وأضاف، يتحول “برش” أو سرير الأسير في الشتاء والذي يتكون من لوح حديدي وفرشة لا يتعدى سمكها 5 سم، إلى قطعة من الجليد، ويحاول الأسير الالتفاف على ذلك من خلال وضع بطانية تحت الفرشة، ثم يغطيها ببطانية أخرى، هذا في حال توفر أغطية كافية، وهو أمر نادرٌ في العموم.

وتعمد إدارة السجون الى منع الأسرى من اصطحاب أي متعلقات معهم، سواء عند اعتقالهم أو نقلهم من قسم الى آخر.. فقط يسمح لهم بإدخال غيار داخلي، ومنشفة، وبدورها تقوم إدارة السجون بتزويد الأسير ببطانية لا تصلح للاستخدام الآدمي.

أحيانا كنت أشعر أن البرودة تنخر عظامي، كنت أرتدي كل ما توفر لديّ من ملابس، فالصوبات ووسائل التدفئة غير موجودة، وعلى الأسير أن يُشعر نفسه بالدفء، وألا يستسلم للأمراض، فالبرد يرافقك طيلة فصل الشتاء، ومن يسعفه الحظ يعيش في عسقلان وهداريم، كونها أقل برودة من السجون الأخرى”، يروي مصفر.

في بعض السجون كانت الإدارة تتعمد قطع المياه الساخنة عن الأسرى في فصل الشتاء، لتصبح عملية الاستحمام فيها أشبه بالمهمة المستحيلة.. فالحمام طوله متر وعرضه متر، وهو عبارة عن ثلاجة، وللحصول على المياه الساخنة عليك الضغط على كبسة كل 10 ثوانٍ حتى تحافظ على استمرار تدفق المياه، فالدش يكون من الحديد ولمسه يصيبك بالقشعريرة لشدة برودته.

وتحارب سلطات الاحتلال الأسرى بشتى السبل، وتبحث بشكل دائم عن التلذذ في عذاباتهم، حيث تتعمد نقلهم في صباحات وليالي الشتاء الباردة بين السجون بواسطة الثلاجة الحديدية المتنقلة التي تدعى “البوسطة”، وتكون مقاعدها حديدية يكبل عليها الأسير من يديه وقدميه.

وعن رحلة وعذابات “البوسطة”، يقول مصفر: “في الصباح الباكر يخرج الأسير من غرفته وينتظر وصول البوسطة ويعزل في غرفة انتظار مقاعدها اسمنتية عدة ساعات، قبل أن يتم نقلك في رحلة كأنك ذاهب الى جهنم”.

ويعتبر الأطفال وكبار السن من الأسرى الأكثر معاناة في فصل الشتاء، إضافة إلى المرضى والجرحى، ولا تتعدى العلاجات المقدمة لهم أكثر من حبوب “الأكامول” المسكنة.

الأسير المحرر عباس مزاحم، من قرية عبوين شمال غرب رام الله الذي أمضى 16 سنة في سجون الاحتلال، يروي تفاصيل تنقله بعربة البوسطة في فصل الشتاء، حيث نقل من المستشفى الذي كان يخضع للعلاج فيه بعد أن أجريت له عملية زراعة بلاتين عند الساعة الثالثة عصرا، وتنقلت فيه هذه العربة بين عدة سجون وخضع للتفتيش عند كل محطة يتم الوقوف عندها، ووصلت فيه إلى السجن في اليوم التالي في حدود الساعة السابعة مساء.

قدرة الأسير على التحمل تعتمد على معنوياته وحالته النفسية، قديش انت صلب قديش بتقدر تنجح في اجتياز هذه المرحلة”، يقول مصفر، الذي شدد على أن تجربة الاعتقال تجربة بطولية بجدارة تستحق تأريخها.

الاخبار العاجلة